قال أحد الأطباء البيطريين من بريطانيا :
كنت أحياناً أترك عملي وأسافر للخارج لعمل أبحاث علمية ، وقد ذهبت مرة إلى بلدة ألمانية صغيرة فيها محمية للأسود والنمور والفيلة والأيائل والنعام .
وفي تلك الليلة الباردة دعاني مدير المحمية ف.ورمس إلى مكتبه لتناول القهوة ، وعند خروجنا كان الظلام دامساً وقد تحوّل بخار الماء ستاراً كثيفاً من الضباب القارس .
قال ورمس ونحن نتجه للغابة : كل النمور هاجعة الآن ؛ تعال نلقي نظرة على أروع مهاجع النمور في ألمانيا كلها .
كان نور المصباح في يد رفيقي يشق الظلام في خيط رفيع يمتد مسافة متر ثم يتلاشى في الضباب، وعبرنا بوابة خشبية متوجهين نحو مهاجع الوحوش .
وسألت رفيقي : أي الحيوانات يُسمح لها بالخروج ليلاً ؟
فأجاب : ثيران الياك و أبقار الواتوسي والنعام والحمير الوحشية ، أي التي لا خوف منها .
وتابعنا السير ، وفجأة سمعت وقع حوافر قوية بقربي وخوار حيوان يمرّ بي ، كان قريباً بحيث أمكنني شمّ رائحته ، ثم لمع نور مصباح رفيقي ليكشف جانباً من جسم حيوان كان شعره جلده الأسود يتصبب ماءً من الضباب المتكثف ، وقال ورمس : هذا ثور الواتوسي ، بعد مسافة قصيرة نصل مدخل النمور .
أخذ رفيقي يتحدث عبر اللاسلكي : ألو هاينز ! أجبني من فضلك ، هل كل النمور داخل السياج ؟
وفرقع الجهاز ثم سمعنا صوتاً يؤكد أن جميع الأسود والنمور سيقَتْ داخل السياج لإطعامها وجبة المساء .
فتح ورمس بوابة الحديد بالريموت ، وبعد دخولنا أغلقها ، وأخبرني أنه لم يبقَ أمامنا سوى مائة متر .
وفجأة ! وقف في مكانه بلا حراك وقال : انظر هناك !!
ووقع شعاع ضوء المصباح على بقعتين برتقاليتين متوهجتين في الظلام ، إنهما عينا النمر !!
أمرني بالإمساك بالمصباح وإبقاء نوره مسلطا حيث هو ، على عيني النمر ، وقال : سأنادي هاينز اللعين !!
وسمعته يتحدث عبر اللاسلكي ويقول : هاينز !! أيها المعتوه !! هل أحصيت النمور داخل السياج ؟؟
بدا هاينز متلعثماً مرتبكاً معتذراً ، والتفت إلي ورمس قائلاً : هذا النمر ( راجا ) ، نمر ذكي لكنه أعتى نمورنا وأشرسها ! لم يذق طعاماً منذ يومين ، دعنا نتحرك إلى البيت !!
تحركنا لكن لحظت أن النمر يسير معنا !
زاد خوفي عندما رأيت أن نور المصباح بدأ يضعف ، ثم سمعت صوت محرك سيارة ، إنه هاينز مقبل لإنقاذنا .
فجأة تلاشى نور المصباح ثم انقطع ولم نعد نرى مكان النمر !!
و أخذ ورمس ينادي هاينز بأعلى صوته : هنا هنا !!
ربض النمر في مكان ما في هذه الظلمة وهو متربص متنصت ، يبدو أنه أحس بأننا خائفان مرعوبان منه .
وفجأة سمعنا دويّ اصطدام وصرير عجلات ، لقد قفز هاينز بسيارته فوق حافة بركة وعلقت سيارته هناك .
لم يبق أمامنا إلا السير في خط مستقيم وقد شبكنا ذراعينا ، وأعصابنا متوترة جداً ، وأملنا الوحيد هو ضوء المصباح الضعيف الذي نحدد به عيني النمر إذا ظهرتا .
وبعد نصف ساعة وصلنا السياج ، لكن يا لخيبة أملنا !! إن شباك السياج ضيقة جداً بحيث لايمكن تثبيت القدم عليها للتسلق !!
وسألت رفيقي : هل بسير بمحاذاة السياج لنبلغ البوابة ؟
قال : لا ، من الأرجح أن نلتقي النمر قرب السياج ، حيث أن الوحوش بالعادة تحب المشي على حدود مكان تواجدها باعتباره منطقة نفوذ لها .
لكن ورمس أشار إليّ بأن أرتقي كتفه وأقفز من على السياج للخارج ، وحينها أبحث عن الحارس وأطلب منه إحضار البنادق .
تسلقت فوق كتف ورمس ، لكن يا للخيبة !! الجزء الأعلى من السياج معقوف للداخل بعرض نصف متر ، ولا يمكن تسلقه أبداً .
ثم سمعنا صيحة بجوارنا !! لقد حضر الحارس أخيراً !!
و بسرعة فتح الحارس ثغرة في السياج ودفع منها البندقيتين ، فأصبحنا مسلحين ، لكنا بقينا عاجزين عن الرؤية في كثافة الضباب .
ورحنا نتلمس طريقنا بمحاذاة السياج ، وفي اللحظة التي وصلنا فيها للبوابة كان ضوء المصباح قد خبا تماماً ، ثم خرجنا من البوابة ، وما إن أغلق بابها حتى أسندت ظهري للسياج وقلت ضاحكا ً : مسكين هاينز !! أليس من الواجب أن نخرجه من هناك ؟
وارتخت ساقاي بعد أن اطمأننت على الوضع ، ولكن فجأة !! أحسست بألم حادّ يمزق مؤخرتي !! وأطلقت صرخة مدوّية وابتعدت عن السياج منكبّاً لوجهي !!
وأضاء الحارس مصباحه ليكشف ما دهاني ، فرأى تمزّقاً واسعاً في سروالي يتدفق منه الدم غزيراً .
وشهق ورمس : ماهذا؟!
وأدار نور المصباح للسياج ، وهناك بدا جسم النمر متلوّياً في الظلام الضبابي وهو يمسك بقائمتيه الأماميتين شبكة السياج الفاصل بيننا ومخالبه بارزة كالمسامير .
هكذا أدركني ( راجا ) ونال مني ، وهذا التذكار الذي أراد تكريمي به كان مؤلماً حقاً .
انتهى .
للجميع تحية عطرة من المواصل