الحبر الأخضر
ضجيج الصمت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذات مساء رائع بجوه وهدوئه.. وحين كان الناس يغطون بنومٍ عميق كنت جالساً أقلب في أوراق كانت مبعثرة على طاولة مكتبي منذ زمن.. أقرأ بعض أسطر منها، أدوّن ملاحظاتي على جلها.. أحاول الهروب عن النوم انتظاراً للفجر وتنفس الصبح.. قفز إلى ذاكرتي المكدودة المسترخية لحظتها هذا العنوان الجامع بين متضادين (الضجيج) و(الصمت).. تساءلت حينها: هل يمكن أن يجتمع الضدان في اسم واحد أم بضدها تتمايز الأشياء.. هل يمكن أن يكون للصامتين ضجيج.. وكيف؟؟ أرجعت رأسي للوراء أبحث عن جواب لهذه الأسئلة.. أنزلت قلمي الذي كان بين أصابعي على الطاولة التي طالما كان لي معها موعد في هجيع الليل الآخر.. رفعت بصري إلى السماء.. تذكرت حينها كم هي لحظات الصمت الرائعة التي لذت بها فراراً من ضجيج الحياة الصاخب وإيقاعها المتسارع.. قلبت وجوه من استطاعت الذاكرة استرجاعهم من أولئك الذين يمرون علي كل يوم صباح مساء كعجلة ذات أضراس تطحنني حتى النهاية.. توفقت عند أولئك الصامتين أقرأ ملامح ذواتهم أفتش عن حروفهم المخبأة خلف هذه الأقنعة الرائعة.. لا أدري لماذا قفزت بين عينيّ صورة تلك المرأة المسنة الصامتة التي جمعت بقايا ثيابها، لملمت شتات ذاتها، ليستقر بها المقام على حافة النسيان في أحد ممرات شوارع الدم، توجهت نحوها عدسات المصورين علها أن ترصد حديث الحواس الغائر من عمق الجرح النازف حتى الموت، أن تقرأ الكلمات المبعثرة من ملامح الوجه الشاحب من ألم الضياع.. لا أعرف لماذا جاءني طيف ذلك الرجل الذي كان جزماً يرقب الحياة بعين التفاؤل والأمل العريض، ولكن سرعان ما تبددت الأحلام، وفقدت الآمال، إذ هدم بيته بالأمس، فصار لا يرى منه إلا بقايا جدار أضحى لا يقي من حر ولا يحمي من لفح هواء برد قارس، جلس صاحبنا على عتبة دار كانت بالأمس داره وعيونه قد غرغرت بالدموع ولكن أبت عليه رجولته إلا أن يحبسها لنقرأ في نهرها الحبيس ضجيج الحزن وألم الجرح.. آلاف الأطفال.. ملايين البشر الذكور والإناث هم صامتون ولكن في داخلهم ضجيج.. لا أدري لماذا تأسرني، تؤثر في ذاتي الشخصية الصامتة البارعة في بعث ما تريد من رسائل عبر استنطاقها الحواس.. لا أعلم لماذا أهوى صمت الليل.. صمت الصحراء حين الغروب وعند الإشراق.. أجزم أن خلف هذا الصمت الرهيب ضجيجاً.. أعرف أن في بعض الحجارة الصماء ضجيج نار مخبأ.. أن في البحر ضجيجاً من الصمت يعرفه الملاحون المهرة وأنواع الأسماك الرائعة.. وفي صمت البراكين ضجيج يعد نفسه على مهل دون أن يعلم الراصدون بذلك.. وفي القلم ضجيج مخبوء في الحبر.. وكذلك في بذرة القمح ضجيج الاخضرار القادم.. هكذا يخبئ كل كائن في صمته ضجيجاً مبدعاً يمكن أن نسميه (إرادة الحياة).. حتى الأجراس حينما تكون صامتة فإنما هي تؤجل الرنين لتحيا من جديد إذ لا حياة لها من غير أن ترن.. جزماً العاشقون يعرفون أن في صمت بعض العيون كلاماً مؤثراً وعميقاً يبلغ حد الدهشة، آهٍ.. كم من عاشقٍ خبأ ضجيج حبه في عينيه.. كم من قصيدةٍ خبأت ضجيج مغزاها الجميل في ظلال رموزها.. كم من طفلٍ أرسل بنظراته الحارقة ناراً تشوي الوجوه الكالحة في زمن الاغبرار.. هكذا هي قصة الصامتين في صخب إيقاع الحياة الحر في زمن اليأس البائس.. وهكذا نحن نبقى نطحن ذواتنا ونحن صامتون.
ـــــــــــــ
ــــــــ
دمت بود ورعاكم الله وحفظكم؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
أخوكم
ضيف الله الرشيدي