حينما تحين لك فرصة لزيارة مدينة العلا، تلك المحافظة الغنية بآثارها العريقة؛ فحتماً ستجد نفسك تواقة للتجول في البلدة القديمة أو (الديرة) - كما يسميها أهالي العلا -؛ فأطلال البلدة القديمة، وما تبقى من بيوتها، وأزقتها الضيقة، وأحواشها، ومساجدها، تشبع رغبة السائح في متعة المشاهدة الجذابة، وتثير فضول الباحث لاكتشاف المزيد من أسرار هذه البلدة، وتاريخها، وحضارتها الممتدة من القرن السابع الهجري، وهي البلدة التي قطنها أهالي العلا جيلاً بعد جيل، وكانت حاضرة وادي القرى بعد أفول نجم مدينة قرح التاريخية.

ويذهب الدكتور عبدالله نصيف إلى أن نشأة العلا كانت أقدم من ذلك؛ فيتحدث في كتابه (العلا.. دراسة في التراث الحضاري والاجتماعي) قائلاً: (العلا كانت قائمة عند ظهور الإسلام ولكنها ظلت بليدة أو قرية صغيرة، حتى ظهر شأنها في أوائل القرن السابع الهجري بعد أن حلت محل قرح كمدينة رئيسية في الوادي).

وكانت نشأة البلدة القديمة بالتمحور حول هضبة كبيرة تعرف ب(الجبيل)، وأيضاً بهضبة (أم ناصر). وجاء اختيار هذا الموقع لنشأة هذه البلدة لأسباب طبيعية وأخرى عسكرية، والأسباب الطبيعية تتمثل في كون هذا الموقع يأتي مرتفعاً عن بقية وادي العلا؛ وبالتالي فهو أكثر أماكن الوادي أماناً من أخطار السيول، إضافة إلى توافر المياه النقية بوجود عين تدعل في ذات الموقع، كما أن أرض الوادي خصبة ومناسبة للزراعة. وأما الأسباب العسكرية فبناء القرية حول هضبة (الجبيل) يمنحها تحصيناً قوياً، كما يمكن استخدام أعلى الهضبة للمراقبة واستطلاع تحركات الغزاة والطامعين في البلدة. ومن حول هضبة الجبيل بدأت نشأة الديرة القديمة بحي الخوخة الذي يعتبر أقدم أحياء العلا القديمة قاطبة.

وقد زارها إبراهيم شجاع سنة 623هـ ووصفها بأنها أرض رمل أبيض، بين جبلين عاليين، كثيرة العيون الجارية، تقع في واد كثير النخل، بلدة صغيرة بها قلعة على قمة جبل. أما ابن بطوطة فقد زارها سنة 726هـ وقال: (العلا قرية كبيرة حسنة، بها بساتين ونخيل، ومياه عيون جارية، يقيم بها الحجاج أربعاً، يتزودون منها بما يكفيهم في سفرهم من الزاد والماء، وفيها يغتسلون، ويغسلون ثيابهم، وأهلها أهل أمانة، إليها ينتهي تجار نصارى الشام، ليتاجروا فيها ولا يتعدوها). والحقيقة أن كلام الرحالة العرب عن العلا يطول؛ كونها تقع على طريق الحج الشامي، وممر القوافل التجارية، ولا يتسع المجال هنا لذكر كل ما ورد من أقوال المؤرخين والرحالة.

ومن أجمل ما قرأت في وصف البلدة القديمة (الديرة)، ما كتبه الأستاذ أحمد عبدالله عبدالكريم - رحمه الله - قائلاً: (إن تخطيط البلدة، رغم أنها لم تبن في وقت واحد، يوحي لمشاهدها بأنها أنشئت وفق مخطط مرسوم، وتصميم مدروس، يفي بحاجة السكان إلى الأمن والطمأنينة على الأرواح والأموال في وقت يعز فيه الأمن آنذاك.

إن المساكن كلها تكاد تسري على نمط واحد في التصميم؛ فالبيت يتألف من دورين، دور أرضي وأول فقط، فعندما تدخل إلى البيت من الباب، تدخل على فناء مسقوف كله إلا فتحة يصعد معها الدرج إلى الدور الأول، وهذا الفناء يسمى (أسفل) وهو مظلم نسبياً؛ لعدم وجود فتحة فيه تسمح بإيصال نور كاف باستثناء فتحة الدرج، وفي هذا الفناء غرف - حسب حجم البيوت - تسمى قياعاً، واحدها قاعة، وهي مظلمة حتى في رابعة النهار، وتستعمل لإنارتها فتحة صغيرة في السقف تسمى (جلو)، لا تتجاوز نصف متر في نصف متر تسمح بإدخال بصيص من الضوء يهتدي به من يدخل القاعة إلى حاجته، وتستعمل القياع كمخازن للمؤونة وبعض أثاث البيت، وفي ناحية من أسفل يبنى الدرج ليوصل إلى الدور الأول، وما تحت حصان الدرج يسمى (سرير)، وفي السرير قد تعلق قرب ماء الشرب، والتي تسمى السعون، واحدها سعن، بكسر السين وإسكان العين، وقد تربط فيه بعض الأغنام - في حالة البيوت الصغيرة -. وعندما تصعد مع الدرج إلى الدور الأول، والذي يطلق عليه عموماً (الصحن)، وفي بعض البيوت يقابلك المربد، والفرق بين الصحن والمربد، هو أن الصحن يكون مسقوفاً وأما المربد فمكشوفاً، وقد يوجد في هذا الدور قاعة واحدة أو أكثر، كما يوجد المرحاض الذي لا يستعمل فيه الماء، بل يستجمر فيه من الحاجة بقطع اللبن، وهو الطين اليابس الجامد، كما يوجد المطبخ، وفي غالبية البيوت تبنى غرفة أو أكثر فوق السوق - أي أن أرض الغرفة سقف للسوق الواقع بين البيوت المتجاورة - وباب هذه الغرفة يفتح على المربد أو الصحن وتسمى (طيارة)، وفي جدار الطيارة المطل على السوق، تعمل فتحة صغيرة، مربعة أو مستطيلة تقل أضلاعها عن نصف المتر تستعمل للإنارة ولرؤية من قد يطرق الباب من الزائرين وتسمى (طاقة)، والبيوت كلها مبنية من الحجارة بالنسبة للدور الأرضي، أما الدور الذي يليه، أي العلوي فغالباً ما يكون بناؤه من اللبن المصنوع من الطين.

وتسقف السقوف بجذوع النخل وأعواد الأثل، تصف فوقهما (المزاريق) جمع مزراق، وهي جريد النخل، بعد استبعاد الخوص عنها ثم يفرش الخوص فوقها، وقد توضع فوق ذلك الحصر المستغنى عنها ثم يوضع فوقها الطين بعد ذلك.

وتصنع الأبواب كلها من خشب النخل، وقد بنيت البيوت ملاصقة بعضها لبعض، وسطوحها متصلة؛ حتى ليمكن لأي إنسان أن يظهر على سطح أحد البيوت، فيطوف على سائرها دون أن ينزل، أما الأزقة والأسواق فكثيرة، وطويلة، وضيقة، ومنفذة على بعضها، ولا يتجاوز عرض السوق في الغالب المتر والنصف إلى المترين وأوسعها ثلاثة أمتار إلى أربعة وهو السوق الذي توجد فيه دكاكين البيع والشراء وتوجد أيضاً فيه الرحاب، واحدها رحبة، والرحبة سقيفة طويلة على جانبيها بنيت دكاك، واحدها دكة، لجلوس الناس عليها في بعض أوقات النهار). انتهى كلامه رحمه الله.

والحقيقة أن معظم الحجارة التي استخدمت في بناء بيوت البلدة القديمة، إنما جلبت من خريبة ددن، وهي أطلال وآثار مملكة ديدان التي لا تبعد كثيراً عن البلدة القديمة؛ لذا نجد أن الكثير من الحجارة المكونة لبناء هذه البيوت، تكثر فيه النقوش التاريخية، والشواهد والدلالات من حضارات الأمم التي تعاقبت على موقع خريبة ددن، وهذا ما بدا واضحاً لبعض الرحالة الغربيين الذين زاروا البلدة القديمة، وسجلوا مشاهداتهم وانطباعاتهم عن العلا؛ فهذا الرحالة الألماني يوليوس أويتنج الذي زار العلا سنة 1884م تمكن من نسخ عدد كبير من النقوش الموجودة على الحجارة التي أعيد استخدامها في بناء البلدة؛ فنجده يتحدث في مذكراته التي قامت دارة الملك عبدالعزيز بطباعتها مترجمة بعنوان (رحلة داخل الجزيرة العربية): (الاثنين 17 - 3 - 1884م باشرت مع بداية هذا اليوم العمل؛ فالنقوش الغالية على نفسي لم تدع لي مجالاً للراحة. وكما ذكرت من قبل فإن هناك في العلا كمية كبيرة من الأحجار التي تحمل نقوشاً أعيد استخدامها في بناء المنازل والأسوار؛ لذلك ظللت أتجول طوال اليوم في أنحاء المدينة؛ حتى تمكنت من العثور على الكثير منها).

ومن المناسب هنا أن أشير إلى أن أوينتج قدر عدد سكان العلا إبان زيارته لها سنة 1884م ما بين 1000 - 1200 نسمة، ومن الرحالة الغربيين الذين زاروا البلدة القديمة الإنجليزي تشارلز داوتي والفرنسي هوبير ومن فرنسا أيضاً جوسين وسفينياك.

أما عدد بيوت البلدة القديمة فيقدر بأكثر من تسعمائة بيت تقريباً إلا أن الكثير من هذه البيوت قد تعرض للهدم والخراب بسبب عوامل التعرية، وعدم ترميم هذه البلدة رغم جمالها وندرتها. وتوجد في البلدة خمسة مساجد، أكبرها جامع العظام، وهو المسجد الذي يصلي فيه جميع أهل البلدة صلاة الجمعة، ويروى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أثناء مروره بوادي القرى في طريقه لغزوة تبوك كان قد صلى في موضع هذا المسجد، وعلم مكان مصلاه بالعظم، وبني مكانه هذا المسجد. ومن مساجد البلدة: مسجد الصخرة، ومسجد الزاوية، ويسمى أيضا بمسجد (المغاربة)، والمسجد الشمالي.

ويتخلل أسواق وأزقة البلدة عدد من مقاهي مشايخ وأعيان البلدة، وهي عبارة عن دواوين اجتماعية للضيافة ومناقشة أمور الناس، وغالباً ما يكون أصحاب هذه المقاهي من الأعيان أو الميسورين، وأما المناسبات والأعراس فكانت تقام في عدد من الأحواش الموجودة داخل البلدة.

وللبلدة القديمة بوابات ضخمة يسمونها (أصوار)، تفتح نهاراً وتغلق بعد المغرب، وفي الليل تتم حراسة هذه البوابات. وعلى كل حال فهي بوابات عملاقة يعز اقتحامها على المتسللين، وأشهر هذه الأصوار: صور الكاووش، ويسمونه أيضاً صور العسكر، ويسمى بصور الكاووش لوجود مركز الشرطة بالقرب منه، وصور حسناء، وصور أبو ذياب، وصور هرموش، وصور الشريعة، وصور الداهري، وصور حويان، وصور الحسيني، وصور الجنينة، وصور ابن عيد، وصور صالح، وصور الخصيصة، وصور دعيسان، وصور بن عامر، وصور الدرب، وصور شتيوي، وصور الصيري، وبعض تسميات هذه الأصوار جاءت مختلفة في بعض الكتب، ومن تسميات الأحياء والأزقة في البلدة القديمة: الخوخة وسوق العرب وسوق القضاة ورحبة بن عامر والقطين والمطيري وزقاق طاووس وسوق المحمد وغير ذلك من الأسواق والأزقة، ومن أكثر الأشياء التي جذبت انتباهي في البلدة القديمة وجود نظام بارع لتصريف مياه سيول الأمطار من داخل البلدة.

وتعلو قمة هضبة (الجبيل) قلعة قديمة، ينسبها البعض إلى القائد الإسلامي موسى بن نصير، ولا أجد ما يؤكد نسبتها إليه، إلا أن هذه القلعة ذكرت باسم (قلعة العلا) في بعض المصادر التاريخية.

وفي الجنوب من مسجد العظام تقع مسلة الطنطورة التي تطل على فناء الدرب.

والديرة القديمة تعتمد كلياً على عين (تدعل) كمصدر رئيسي للمياه النقية، وتقع هذه العين في الجزء الشمالي من الديرة القديمة، وقد بني عليها حمام مقسم إلى ثلاثة أجزاء، وتستخدم مياه هذه العين للشرب، والاستحمام، والطبخ، وسقاية البساتين، وكانت مياهها قوية وعذبة، وهي أقدم عيون العلا على الإطلاق، وكانت توجد أيضاً عين (المعلق)، إلا أن موقعها خارج الديرة القديمة، ومن ثم نجح أهالي العلا في استخراج أكثر من 54 عيناً جارية، وقد أطلعني العم عبدالرحمن حويكم - رحمه الله - على ورقة، كان قد وثق بها أسماء هذه العيون، وبعض المعلومات عنها.

أما سوق الدور فيقع في الجهة الغربية من البلدة القديمة، وكان بناؤه حديثاً مقارنة بتاريخ البلدة؛ إذ لا يتجاوز تاريخ استحداثه 80 عاماً، وسوق الدور يضم مجموعة من الدكاكين وبيوت الطين المكونة من دورين، وفي سوق الدور تم افتتاح عدد من الدوائر الحكومية مع بداية عهد النهضة.

ومع أن البلدة القديمة تعتبر تحفة معمارية تراثية جميلة ومميزة إلا أنها تظل بحاجة ماسة إلى نظرة جادة من الهيئة العامة للسياحة؛ لسرعة ترميمها بشكل متكامل، واستثمارها سياحياً، بما يكفل الحفاظ على هذا العبق التراثي الشامخ.

جريدة الجزيرة