التقيتها .. بعد أحد عشر عاماً .. أحد عشر عاماً لم أنظر خلالها إلى وجهها قط .

لم يتغير فيها شئ .. لا زالت كما هي .. وردة يانعة .. جميلة .. زادت السنون في أناقتها و بهاء طلتها .

التقيتها صدفة في مكتب للخطوط الجوية .. كانت تريد أن تحجز تذكرتها إلى إحدى دول الخليج .

في ثوان قليلة استعادت ذاكرتي كل ما دفن تحت الرماد .. رماد حبي و عشقي .. رماد أحلامي و آلامي .
في ثوان قليلة تذكرت آخر مرة وقفت فيها في ساحة المطار .. لم تكن تراني .. لكنني عرفت بساعة الصفر فقررت الوقوف على شباك المودعين .. أودع طائرتها التي تركتني لكل كوارث الظلم و الحرقة و الألم المخيف .

نعم لقد باعتني .. باعتني لرجل تزوجته إلى الخليج .. و سافرت معه إلى الخليج ..

باعتني .. و لم أكن رخيصاً .. ثلاثة ملايين ليرة سورية .. هذا هو ثمن حبنا .. هذا هو ثمن الوفاء و ثمن الأحلام و الآمال .
ثمن كل لبنة عمرتها في ليالي السعادة الحالمة .. ثمن كل رفة رمش أبت أن يتناولها النوم حتى لا تغيب عن ورود العشق .
ثمن الوعود و العهود .. ثلاثة ملايين .. كان آنذاك رقماً مخيفاً .. لم أكن رخيصاً ..

عادت الذاكرة إلى ذلك الصوت الهاتفي المبحوح الذي يعلن تسعيرة بيعي ..

لم أعد أستطيع أن أتحمل الضغوط .. مضطرة لأن أتركك .. لا زال الطريق أمامك طويلاً .. لن أنتظرك خمس سنوات أخرى لتنهي عسكريتك و لتؤسس لنا عشنا الصغير ..
ضقت ذرعاً بالأعشاش الصغيرة .. أريد رجلاً يحميني و يلبي احتياجاتي .. يراني كيفما يراني .. و لسوف يحبني كما أحببتني .. و لا يهم أن أبادله حبه .. سيأتي الحب بعد الزواج .

سأعطيك 48 ساعة للتفكير .. أعطني فيها قرارك .. هل أنت جاهز لتتزوجني .. إن كان نعم سأتركه من أجلك و إن كان لا .. فلا تحمل علي ضغينة أو حقداً ..

كان كلامها واضحاً تماماً و خلا من أية مجاملة .. بصراحة كنت سأعذرها لولا أنني كنت طرفاً في القضية التي تم خلالها بيعي .

بعد أقل من 24 ساعة .. كان جوابي واضحاً أيضاً :

أنا أحبك و هذه كل حصيلتي المالية اليوم فلم يمض على تخرجنا أيام .. و لا زال الدرب أمامي طويل خمس سنوات على الأقل .
لكننا لا نزال صغاراً و نستطيع أن نبني ( عشنا ) و أن يكبر هذا العش معنا .. بدل أن نلبس ثياباً على غير مقاسنا .
بصراحة لا أستطيع .. تمنى لي الخير و لا تحمل علي حقداً .

حقد .. هذه الفتاة بلهاء .. فمن يعرف الحب لا يعرف الكره .. كانت كل حياتي .. تعبت لأجلها .. درست لأجلها .. شقيت لأجلها .
كنت قد تحدثت إلى أهلها عن فكرة الزواج .. و بصراحة فلم يرفضوني من حيث المبدأ لكن فرصة الوقت كانت عاملاً سلبياً .

بعد 11 عاماً كل منا كان قد تزوج من الشخص الذي لم يكن قد أحبه .. من الذي قال أن الحب يأتي بعد الزواج .. ما يأتي بعد الزواج هو الاحترام - العشرة – الخبز و الملح – الوفاء - المسؤولية – الأولاد .. أما الحب فلا يأتي بعد الزواج أبداً .

نعم الإنسان الذي عشق مرة بصدق و عفة لا يمكن أن يداخله ذلك الشعور مرة أخرى أبداً .

وقفت أمامها .. كانت ملامحنا قد تغيرت جزئياً و طفت عليها علامات الرشد .. كانت أفكارنا قد تغيرت .. حاولت وحاولت أن ألقي التحية .. دون جدوى .. يبدو أن الجمر الذي أطفأته السنين اتقد خلال ثوان قليلة ليشعل تاريخاً من الأسى .

عندما التقت نظرتنا .. كانت تجلس في غرفة مدير المكتب .. وقفت ذاهلة و قد استعادت ذاكرتها أيضاً .. حاولت رفع يدها فلم تستطيع .. و حاولت فك اللجام عن لساني فلم استطع ..

غادرت المكتب دون أن أحجز .. لم أستطع الوقوف .. خشيت من الانهيار .. آثرت الخروج .. و خرجت .

و عدت إلى زوجتي و أولادي و بيتي ..

بيتي الذي أسسته على الاحترام و الوفاء و المسؤولية .. و ليذهب الحب الأول إلى الجحيم لذا لا تبحثي عن الحب بعد الزواج.