كلمة الاقتصادية
| الاثنين 19 فبراير 2018


لماذا الخصخصة؟ لأن الأصل في الاقتصاد هو الإنتاج، وليس الإعانة. الاقتصاد الذي يعتمد على الإعانات اقتصاد غير مستدام، وسيأتي يوم ما ويفقد هذا الاقتصاد قدرته على الاستمرار، وهذا صحيح بالنسبة لمكونات اقتصاد الإعانة، فالمؤسسات الاقتصادية التي تعتمد على الإعانة وليس على قيمة إنتاجها ستفقد قدرتها على الاستمرار يوما ما. اقتصاد المملكة إنتاجي يعتمد على النفط كسلعة رئيسة لإيجاد ثروة الأمة، لكن هذا غير صحيح بالنسبة لمكوناته، فكثير من المؤسسات الاقتصادية هي مؤسسات تعتمد في بقائها على الإعانة، وليس على قيمة إنتاجها. في المملكة ولظروف تاريخية ليس هنا مكان سردها، رأت الحكومة أن عليها تولي دفة الاقتصاد، بمعنى أنها ستقوم بتجميع كل عوامل الإنتاج وصهرها معا من أجل إنتاج القيمة وتبعا لذلك يمكن استهلاكها وبيع الفائض منها لتحقيق ثروة الأمة، وهكذا فالدخل الحكومي كان لفترات طويلة - حتى اليوم تقريبا - هو الاقتصاد السعودي، وبمعنى آخر كانت الحكومة شركة سعودية كبرى. لكن هذا النهج الاقتصادي الذي نجح خلال فترات ماضية أصبح اليوم مستحيلا كاقتصاد مستدام. ولابد اليوم من إعادة بناء الاقتصاد، ذلك أن أكبر مشكلات النظام الاقتصادي الذي تقوده الحكومة هو فشله في تحديد القيمة وتحديد أوليات الإنتاج ومن ثم يفشل في تخصيص الموارد بشكل صحيح. كمثال على ذلك يمكن مناقشة وضع البريد السعودي ومشروع خصخصته.
يأتي تصريح وزير الاتصالات وتقنية المعلومات، واضحا بشأن وضع البريد السعودي حيث قال "تعلمون أن الإيرادات البريدية في انكماش عالميا، لذا علينا التحول إلى البريد الجديد الذي يركز على التجارة الإلكترونية"، انتهى. فالبريد بشكله الخدمي الكلاسيكي يمكنه أن يعيش كما هو الآن وفقا لمفهوم الإعانة التي يحصل عليها من المالية العامة للدولة، لكنه بهذا النهج لن يكون منتجا للقيمة بل مستهلكا للموارد فقط، ومعنى القيمة هنا أي منتجا لسلعة أو خدمة يمكن للمستهلك أن يدفع في مقابلها من موارده ما يفوق تكلفتها، لهذا فخصخصة البريد السعودي تعني تحوله من نظام الإعانة إلى إنتاج القيمة الاقتصادية التي يحتاج إليها المجتمع وهذا يتطلب ــ كضرورة ــ تحول دور الحكومة إلى مستثمر.
الخصخصة إذا هي مشروع وطني لتحول الحكومة من مقدم للإعانة ومعيل للمؤسسات الاقتصادية فيها، إلى مستثمر يبحث عن تعظيم عوائده، على أن هذه العوائد الحكومية لا توزع كأرباح بل يعاد تدويرها في الاقتصاد لتعظيم الإنتاج والقيمة فيه باستمرار "وهذا معنى اقتصاد مستدام". وبالعودة إلى تصريح وزير الاتصالات وتقنية المعلومات نجد هذا واضحا في قوله "إن خصخصة البريد ستمر بثلاث مراحل، عبر التحول من الإعانة إلى العمل المؤسسي الذي يركز على القوائم المالية والإدارة بروح القطاع الخاص". انتهى. بالطبع سيكون على الدولة تحمل تكلفة الخصخصة في بداية الأمر، وأيضا تحمل مخاطرها، بمعنى أن الدولة ستقوم بإنشاء الشركات الجديدة، مثل البريد، وتتحمل تقديم رأس المال الثابت والعامل، وتتحمل أيضا تكلفة رأس المال في السنوات الأولى، ثم سيكون عليها بعد ذلك مواجهة السوق المالية عند طرح الأسهم للاكتتاب العام، والسوق ستقرر المشاركة في هذه الشركات فقط إذا كانت تحقق عوائد، فإذا لم يكن الأمر كذلك كان للدولة إيقافها تماما وهذا معناه إيقاف الاستثمار فيها، لأنه يجب ألا يقف مشروع الخصخصة عند إنشاء شركات عامة حتى لو كانت خاسرة، بل هو التحول إلى مفاهيم الاستثمار والقطاع الخاص تماما، وعلى الخدمات التي لا تستطيع إيجاد قيمة مقنعة وتنافسية للأسواق وعوائد مرضية للمستثمرين، ومن بينهم الحكومة، أن يتم التوقف عن تقديمها حكوميا، بأي شكل نظامي وفورا. فالخصخصة وفقا لهذا التصور الواضح هي كذلك مشروع تحد أمام هذه المؤسسات التي يجب عليها أن تثبت تفوقها بعد خصخصتها ولن يتحقق لها ذلك حتى تدار بمفاهيم الإدارة المحترفة، وفصل الملكية عن الإدارة وتعزيز الحوكمة وقيمة المعلومات ونشرها في تقارير مالية معلنة للعموم.