الى كل صاحب ادارة من الوطن السعودية
سياسة التخويف
*كاتبة سعودية
هالة القحطاني*
دخلت هند إلى مكتب مديرها الجديد بعد أن قادتها السكرتيرة الشقراء إلى مكتبه. طرقت الباب وسمعت كلمة "ادخل". شعرت بألم مفاجئ في بطنها من شدة الخوف وهي تدخل إلى مكتبه. قال لها مدير الإدارة إنه شخصية صعبة ولا يعجبه العجب. وسمعت من الزملاء أنه لا يحب توظيف النساء في قسمه وخاصة المتزوجات.
دخلت مكتبه والخوف يعتريها وقالت: "السلام عليكم أستاذ ناصر" ، لم يرفع عينه من على جهاز الكمبيوتر الذي أمامه وقال: "وعليكم، تفضلي اجلسي وأعطيني دقيقة أنهي ما بيدي". طبع بعض الكلمات وهو يحدق بالشاشة حتى كاد يدخل رأسه بها، ثم عدل نظارته التي كادت تسقط من فوق أنفه بحركة لا إرادية. ورفع رأسه ثم قال بدون مقدمات: "أنا سبق وطلبت من الإدارة ألا يرسلولي حريم".
قالها بكل قلة ذوق كبداية لحديثه معها دون أن يخجل من كونها أول مرة تدخل مكتبه ضاربا بكونها موظفة جديدة عرض الحائط.
واسترسل في الأسئلة: هل أنت متزوجة؟ قالت لا. قال: "كلكم تقولون هكذا في البداية ثم تتزوجون في النهاية بعد كم شهر، وتبدأ الأذية. إجازة شهر عسل. وبعدها أمومة. وولادة. وباروح أطعم ابني وسوالفكم الكثيرة وتعطلونا".
نظرت الفتاة المسكينة يمينا وشمالا في محاولة منها لإبعاد دمعة كادت تفر من عينيها مصدومة من خشونة استقباله. ولا تدري كيف تبعد عنها تهمة الزواج والأمومة خاصة أنها لم تتزوج بعد.
ثم قالت: "أنا عندي خبرة في الإدارة و.. و.."، وبدأت تسرد خبراتها ومعلوماتها ودراستها. وناولته بعض الأوراق التي تثبت أنها موظفة كفء في عملها السابق قالت: "وفي نفس الوقت أنا أعمل بكل جهد ولم أرفض عملا، وأنهي أعمالي في زمن قياسي"، قال: "خلاص، خلاص لا تأذينا. بنجربك".
عملت هند بقسم الأستاذ ناصر الغريب الأطوار، الذي كان يحضر في الصباح الباكر بملابس غير مرتبة وأحيانا مشقوقة. كان يختار المناسبات لكي يخوفها بالنقل من مكانها إذا قصرت في عملها، قال لها يوما: "ترى إذا حسيت إنك بتصيري حرمه في شغلك أنقلك لقسم آخر"، هكذا بكل بساطة لأن الشركة "شركة أبوه" وليس حوله أحد (ومن أمن العقوبة أساء الأدب).
جاء وقت التقييم السنوي الذي على أساسه تصرف العلاوات والدرجات. كانت هند قد عملت على تغطية نقص زملائها ساعات إضافية. وحين لم يصرف لها أجر ساعات ثلاثة أشهر إضافية ذهبت لمديرها الفظ تطالبه بحقها والذي ارتبك بسبب سهوه عن إدراج اسمها في كشوف الموظفين التي ترفع لرئيسه للتوقيع عليها. فقال لها بكل وقاحة: "أنت لم تذكريني بذلك، وهذه غلطتك، ثم تراكِ بدأتِ تثيري المتاعب لنا". غلطتها لأنها والجميع يعلم بأن رئيسها كان يداوم أياماً وهو سكران، فكان من الأجدر بها أن تراعي سكره وتذكره بساعاتها الإضافية. لأن العمل مع مدير يعاني من الشرب المفرط أصبح مشكلة الموظفين لا مشكلته مع إدارته.
غادر السيد ناصر اليوم التالي ليستمتع بإجازته السنوية ليخلفه الأستاذ فهد الذي كان يعشق الواسطة والمحسوبية حيث كان لها دور كبير في نفسه وفي حياته العملية والاجتماعية. استدعاها السيد فهد وسألها: "سمعت بأنك تثيري المتاعب في العمل"، قالت: "أية متاعب؟، لم أطلب سوى حقي من أجر ساعات عملي الإضافية، كنت أحضر إلى العمل الساعة السادسة صباحا لكي أنهي التقرير اليومي كما طلب مني على أكمل وجه، وعرفت من الأستاذ ناصر أنه نسي إدراج اسمي في قائمة الموظفين الذين عملوا ساعات إضافية، لم أثر أية متاعب يا أستاذ فهد كل الذي طلبته أجر عملي"، قال: "لا أستطيع أن أطلب من رئيسي أن يوقع على ساعات أجر إضافي متأخرة كان من المفترض أن ترفع إليه الشهر الماضي". طبعا كان لا بد أن يستخدم سياسة التهديد لتخويفها في هذا الوقت من السنة، فقال لها: "هند أنت موظفة جيدة وموعد تقييمك قد حان ولكن لسانك سيكون سبب تأخير علاوتك وترقيتك، الرئيس السابق قال لي عنك إنك موظفة جيدة ولكنك سليطة اللسان"، نظرت إليه باستغراب وانهمرت الدموع من عينيها حين شعرت بجرح كلماته القاسية. وجلست تخاطب نفسها: "الرئيس السابق، يقصد السكران الذي نسي أن يرفع الكشوف للتوقيع"، كانت السياسة المستخدمة بين تلك النوعية من الرؤساء حين يتم نقل موظف أو موظفة لقسم آخر، هي سياسة الاستنزاف أولا بغرض الاستفادة من الخبرة في العمل، ثم تبدأ سياسة التهديد مع الموظفين الشباب وسياسة التخويف هي الراجحة مع الموظفات (السعوديات).
مرت سنتان وعاد وقت التقييم السنوي يرمي بظلاله السوداء على نفس القسم الذي أصبح يرأسه السيد فهد بشكل رسمي حيث عمل على ترقية وتطوير جميع من يقربون للسيد خالد الناظر الإداري الجديد وفي نفس الوقت مديره المباشر. ذهبت هند هذه المرة للأستاذ خالد وقالت: "لقد عملت طوال ثلاث سنوات من غير توجيه مباشر، وفعلت كذا وكذا من الإنجازات، ألم يحن الوقت بعد لاستحقاق ترقية أو علاوة، خاصة أنه لا توجد هناك متطلبات تعليمية أو تدريبية تنقصني للحصول على الدرجة؟". نظر إليها السيد خالد وهو يبتسم بخبث وقال: "الدائرة مقيدة بعدد قليل من الدرجات، فقط اثنان تتم ترقيتهما كل عام على مستوى الدائرة، والسنة هذه أخذها شخص آخر، وبالمناسبة يا أخت هند لقد سمعت من رؤسائك أنك تسببين بعض المشاكل، وهذا الشيء يؤثر بالتأكيد سلبا على أدائك الوظيفي، وإذا لم يتوقف ذلك فسنضطر للموافقة على نقلك"، "نقلي؟" ردت عليه وهي مصدومة، ولكن هذه المرة لم تبك لأنها فهمت السياسة فجهزت نفسها نفسيا لاستقبال الأسوأ.
خرجت من مكتبه وهي لا تدري لمن تذهب في دائرتها ولا يستخدم سياسة التخويف. فوجدت (ليلى) إحدى زميلاتها تبكي بحرقة في أحد المكاتب. حين اقتربت سمعتهم يتحدثون عن تسلمها إنذارا بالفصل من مكتب السيد خالد. وتجمعت الموظفات لتهدئة زميلتهن وتعالت أصواتهن بكلمة واحدة تناقلتها ألسنتهن حتى أصبحت تتردد كالصدى (حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا خالد، حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا إبراهيم). فوجدت نفسها تتمتم "حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا فهد"، عادت هند في اليوم التالي لتجد قرار نقلها إلى قسم آخر، سألت رئيسها فهد عن السبب قال: "هذا قرار الإدارة - يقصد رئيسه خالد- ثم ينبغي لك أن تبدئي بداية جديدة وتتركي إثارة المشاكل"، وناولها خطاب شكر على خدماتها العظيمة التي أكملتها على أحسن وجه.
مسلسل التخويف الذي تتبعه معظم الإدارات في القطاعين الخاص والعام تجاه الموظفات خاصة حين تتقدم إحداهن للمطالبة بأحد حقوقها الوظيفية من الرئيس المباشر هو مسلسل مستمر وفروعه كثيرة. تلك القوانين منصوصة بشكل خفي بين عدد كبير من مديري الإدارات الكبيرة الذين يعمل تحت أيديهم خاصة الموظفات من النساء لجهل بعضهن بالقوانين المستحدثة والتي أحيانا تكون وليدة الموقف وليس لها أساس من الأصل في صفحات قانون الأحوال المدنية. ولكن المدير هو الذي يبتدعها مستغلا منصبه وسياسة التخويف لأن الرجل اعتاد أن يخيف المرأة منذ قديم الأزل. ولو كان الضرب عادياً ودارجاً في المكاتب لوجدنا نصف الموظفات يتم ضربهن على أيدي رؤسائهن بالمرة، ولكن الحمدلله أنه ممنوع. ويكفي ضربهن بالكلمات الجارحة التي يعد وقعها على النفس أشد من الضرب الحقيقي، وحين تتم عملية النقل (تبادل الأسرى) بين الرؤساء يعمل العديد مثل السيد فهد وخالد على تشويه سمعة الموظف والموظفة بما يتناسب مع مصالحهم الشخصية. فمثلا تلك الدرجة حصلت عليها أخت زوجة السيد خالد. لأن السيد فهد عاشق المحسوبيات أحب أن يخدم رئيسه المباشر في نسيبته. لذلك ذهبت إليها الترقية بخطاب به من الديباجة ما يعجز عن فبركته أبو العلاء المعري. شيء متقن من كل زاوية. والسيد فهد كان يحاول الوصول إلى مركز ناظر إداري بأي وسيلة. لذلك جلس يأخذ من الموظف الذي يستحق الترقية والعلاوة، ليعطي آخرين لا يستحقون وظيفيا، هكذا عيني عينك. وكل الحكاية التي تشفع لهم أنهم يقربون للسيد خالد الناظر الإداري الذي وصل لمركزه على ظهور موظفيه الأكفاء بتطبيق سياسة التخويف الإداري للموظفات وسياسة التهديد للموظفين، أو لغيره من أصحاب القرار في الإدارة الضخمة وحين يتم اعتراض أحد الموظفين الذي لا يملك خالاً أو نسيباً في الإدارة يدعمه يشكل فهد مع رئيسه خالد حائط صد بشرياً يبرران فيه أفعالهما. وينضم لهما الفهلوي إبراهيم بأساليبه الملتوية لتحقيق النصر وللبقاء على وظيفة الرئاسة طوال العمر.
كانت ليلى موظفة مجتهدة، مشكلتها ليست بيدها، كانت صحتها تتدهور أثناء الحمل والولادة، في أحد الأيام أصيب زوجها بحادث وأصبح مقعداً لتتحمل بذلك إعالة أسرتها التي تتكون من زوجها وأولاده من زوجة سابقة وأولادها. كانت المسكينة تعاني الأمرين: مرضها ومرض زوجها. وفوق ذلك مسؤولية أطفال في سن الابتدائية وهذه مسؤولية ليست بالهينة على أم عاملة وزوج مقعد أبدا. ومع ذلك اشتغل على تطفيشها رئيسها المباشر الأستاذ إبراهيم المشهور بالفهلوة التي حولته بقدرة قادر من حامل وموزع ملفات إلى رئيس قسم حيوي في الدائرة. قدم الأخ فيها تقريراً لتستلم على إثره إنذاراً بالفصل الذي أبكاها ذلك اليوم.
ولماذا لا تبكي؟ المرأة على وشك أن تفقد مصدر رزقها الذي يعيلها ويعيل عائلتها لمجرد أنها كانت مريضة. وتتأخر أحيانا لتوصيل الأطفال ومراعاة واجب ذلك الزوج المريض الذي يأخذ تحضير أدويته وطعامه بعضاً من وقتها.
دخل إبراهيم على رئيسه خالد حيث كان مجتمعا بموظفه وصديقه فهد وطلب منه التوقيع على خطاب إنذار بالفصل في حق الموظفة ليلى. في نفس الوقت كانت هند تعمل في المكتب المجاور على تقرير "طويل العمر" خالد حين وصلت إلى مسامعها الخطة الدنيئة التي كان يستخدمها المديرون المحترمون في لحظة غابت فيها الرحمة عن قلوبهم حين اجتمعوا لفصل إنسانة محتاجة للمساندة لا للمحاربة والتخويف. وكأن راتبها البسيط يصرف من جيوبهم، دخل فهد وبعد أن اطلع على الدراسة التي كانت تعدها هند طلب منها أن تتلاعب بالأرقام في الدراسة الإحصائية قبل أن يتم تسليمها للناظر الإداري خالد. وقال: "هند زيدي الأرقام، فهي ليست مقبولة، ولن يرضى عنها السيد خالد". فقالت: "ولكن هذه هي الأرقام الحقيقية"، قال: "افعلي ما آمرك به"، كان فهد يرضي خالد بكل الوسائل حتى لو كانت خطأ، ويستخدم معه نظام أن أخاه كان مديراً تنفيذياً لإدارة مفصولة عن إدارتهم ولكن نفوذه ممكن أن يصل لإدارته. فبات فهد يحصد الدرجات تلو الأخرى فقط من مجرد تذكير رؤسائه أصحاب سياسة التخويف بمستوى أخيه الإداري بشكل رخيص وبعيد كل البعد عن نزاهة المهنة. فحصل بكل سهولة على الدرجة الـ12 والـ13 في غضون أربع سنوات وما خفي كان أعظم، زادت همهمة الموظفين بنفس الكلمة سنة بعد سنة، "حسبي الله ونعم الوكيل". وذيلت في كل مرة باسم مدير مختلف من أصحاب نفس السياسة. رزق خالد بأبناء مرضى. وأصيب والد إبراهيم بأمراض لا تحصى. وتكالبت المشاكل فوق رأس فهد من جميع الجوانب. وجاء تشكيل إداري جديد بترقية نفس الشلة جميعا لأنهم ابتدعوا فكرة التخويف التي تبعد الموظفين عن المسؤول الكبير. ومازالت الموظفات والموظفون يرددون "حسبي الله ونعم الوكيل".
لا يريد هؤلاء المديرون أن يفهموا نتيجة تلك العبارة، ولكن تطور استخدام سياسة التخويف، فأصبح أي موظف مظلوم يتجرأ ويطالب بحقه لا بد أن يمر بسلسلة من التهديد يتبعها تخويف ثم تتكتل عليه الإدارة لينتهي في العراء، لا وظيفة ولا ترقية ولا علاوة ويجمد في الشركة سنة بعد سنة وتتحول حقيقة أنه مظلوم إلى صاحب مشاكل يتحدى الرؤساء بطلب علاوة أو ترقية. العلاوات والترقيات تخصص لأمثال هؤلاء المديرين أصحاب فكرة التخويف الإداري الذي للأسف استفحل في العديد من الدوائر. ولم يبق سوى المطالبة بنصه في قانون العمل الدولي لتستفيد من خبراتنا الدول الأخرى، السؤال هل يعلم وزير العمل بأن هناك قانوناً يطبق منذ أكثر من عشر سنوات منصوصاً في لائحة خفية اسمه سياسة التخويف؟. إن لم يكن يعلم فهو يعلم الآن. ومازال التخويف مستمراً. والموظفون يرددون "حسبي الله ونعم الوكيل".