التأمين أنواعه وأحكامه (1/2)

منصور بن تركي المطيري 11/3/1423
23/05/2002


خلال السنوات العشر المنصرمة وأنا في بداية التكوين العلمي سواء من خلال الدراسة النظامية في المعهد العلمي والكلية ثم المعهد العالي للقضاء أو من خلال الدراسة على الشيخ محمد ابن عثيمين – رحمه الله -، ما زلت مقتنعا بجوانب من الكلام على موضوع التأمين التجاري، لكن كنت أعتقد أن هناك جوانب تمثل خللا يحتاج إلى مزيد بحث ونظر.
وبعد مدة من إمعان النظر – خاصة وقد تزايدت الحاجات إلى النظر المباشر في مسألة التأمين، وتغيرت كثير من الظروف التي تدعو إلى بيان شاف في حكم التأمين – وجدت أن كثيرا من القضايا المتعلقة بحكم التأمين لا يزال فيها أخطاء علمية لم أجد من وضحها، كما أن هناك بعض المسائل والأدلة لم يشر إليها ولم يمعن النظر فيها لذا سعيت إلى إظهارها وإبرازها، ولا شك أن مسألة التأمين مسألة حادثة في العصور المتأخرة وفي الوقت نفسه شائكة ومشكلة نوعا ما.
والتأمين يأخذ ثلاث صور وأنواع رئيسة هي التأمين الخيري، والتأمين التعاوني، والتأمين التجاري (1)، حيث يقوم الخيري على مبدأ الزكاة والصدقة، والدافعون له هم الأغنياء، والمستفيدون منه هم الفقراء. وأما التعاوني فيقوم على اشتراك جماعة من الناس في دفع أقساط يؤديها الجميع ومن خلالها يمكن استفادة أي منهم بهذه المبالغ عند حصول الحادث أو الضرر، وتدير هذا التأمين جمعية تعاونية، أما التجاري فهو مثل التعاوني إلا أنه يهدف إلى الربح، وتديره شركة ربحية تجارية.
فالتأمين الخيري متفق على مشروعيته على تفاصيل أحكامه المعروفة في كتب الفقه، والتعاوني أجازه الكثيرون ومنعه البعض – وممن أجازه هيئة كبار العلماء. والتجاري وهو موضوع حديثنا مختلف فيه بين العلماء، ومن الأمور التي لاحظتها في الكلام على هذا النوع من التأمين هو التزايد في التدليل من كلا الطرفين المبيحين مطلقا والمانعين مطلقا، كما أني لاحظت وجود حق في أدلة كل فريق، وعليه سأظهر الرأي الوسط في هذا المقال المختصر والذي يأخذ بكل حق عند الآخر وتبيين ما عنده من خطأ بقدر الإمكان، والذي أعتقد أن الاهتمام به وتفعيله سيؤدي إلى تقريب كبير لوجهات النظر المتباينة.
حقيقة التأمين التجاري
أريد أن أبين هنا أن كلامي في هذا المقال منصب على حكم جوهر التأمين وذاته، ولست أقصد الكلام على عقود شركات التأمين الحالية التي يتضمن كثير منها مخالفات شرعية سواء في الشروط أو في بعض أنواع التأمين التي يقول بمخالفتها للشريعة حتى القائلون بإباحة التأمين مطلقا، والتأمين اصطلاح عربي حديث، يقابل في الاصطلاح الفرنسي (Assurance) والإنجليزي: (Insurance) ويعني تحقيق الأمان، والأمان بالفرنسية (Securite) وبالإنجليزية (Security) ومن هذين اللفظين دخلت كلمة (سوكرة) أو (سوكرتاة) إلى بعض الجهات العالمية في مثل الشام (2) وقد استخدمت في بعض البحوث القديمة.
وتعريفه القانوني كما عرفه بعض الباحثين فقال: هو التزام طرف لآخر بتعويض نقدي يدفعه له أو لمن يعينه عند تحقيق حادث احتمالي مبين في العقد مقابل ما يدفعه له هذا الآخر من مبلغ نقدي في قسط أو نحوه (3).
التأمين التجاري قمار وغرر ولكن…
كثير من القائلين بحرمة التأمين مطلقا يصوغون ثلاثة أدلة أو أكثر وهي عند التحقيق وفي الحقيقة تعود إلى دليل واحد (4)، فيقولون: التأمين حرام لأنه ميسر وقمار، ولأنه غرر وجهالة، ولأنه رهان ومخاطرة، ولأنه أكل لأموال الناس بالباطل، وهذا الأخير من آثار ما سبقه من تعليلات وليس مستقلا عنها، وكل ما سبق في الواقع دليل واحد، وأنا أستغرب من محاولة التعداد والتكاثر لمعاني مترادفة، أو على الأقل معاني متقاربة جدا، بل ومن المؤكد هو اتفاقها وتطابقها في أغلب القضايا المعينة، فإنها وإن تفاوتت في المفهوم، فقد تطابقت في كثير من المصادقات التي منها التأمين، وإظهار التباين في موطن الاتفاق خلل وعيب.
والقمار في اللغة من قمر يقمر مقامرة وقمارا وقمرا من باب نصر، يقال: قمر الرجل الثلج: تحير بصدره من الثلج، وتقمر الصيد: خدعه، وتقمر المرأة خدعها وطلب غرتها، وتقمر عدوه: تعاهد غرته ليوقع به، وتقمره: راهنه فغلبه (5)، ففي معنى القمار في اللغة التغرير بالشخص لجهالة عاقبة أمره، وهذا مقارب للمعنى الاصطلاحي الذي سيأتي.
ويبحث معنى القمار في لغة الفقهاء واستعمالاتهم، وهل هو خاص باللعب بالمال، كما يقول الدكتور رفيق المصري عازيا ذلك إلى أبي عبيد صاحب كتاب الأموال (6)، أو هو عام لكل غرر اشتمل على مخاطرة بين حصول الغنم أو الغرم؟. نجد بعد التتبع لأقوال العلماء والفقهاء واستعمالاتهم للفظ القمار أنهم يعممون معناه: فقد أطلق الإمام مالك على بعض بيوع الغرر قمارا (7) وتبعه في ذلك أصحابه، كما أطلق الشافعي القمار على معاملات ليس فيها لعب مثل قوله المعروف في شركة المفاوضة بأنها قمار (8)?، وكذلك كثير من الأحناف (9)، وأما الحنابلة فهم أيضا يوسعون معنى القمار، ودليل على ما ذكرنا: كلام السلف عند قوله تعالى: يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم وكبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما (10)، حيث قال كثير منهم: "الميسر هو القمار كله"، وقالوا أيضا: "القمار الميسر"، وقال بعضهم: "كل شيء له خطر فهو من الميسر" ورد مثل ذل بمعان متقاربة عن ابن عباس، والحسن، وقتادة ومعاوية بن صالح، وابن سيرين، وعطاء، ومجاهد، وطاوس، وغيرهم (11).
يقول ابن تيمية: "لفظ الميسر هو عند أكثر العلماء يتناول اللعب بالنرد والشطرنج ويتناول بيوع الغرر التي نهى عنها صلى الله عليه وسلم، فإن فيها معنى القمار الذي هو ميسر، إذ القمار معناه أن يؤخذ مال الإنسان وهو على مخاطرة هل يحصل له عوضه أو لا يحصل… وعلى هذا فللفظ الميسر في كتاب الله يتناول هذا كله، وما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الغرر يتناول كل ما فيه مخاطرة (12)، وقال أيضا: "الغرر هو المجهول العاقبة فإن بيعه من الميسر الذي هو القمار" (13). وقال ابن القيم: "الجهالة المانعة من صحة العقد التي تؤدي إلى القمار والغرر" (14)، وقال ابن مفلح: "الغرر ما تردد بين الوجود والعدم فهو من جنس القمار الذي هو الميسر وهو أكل المال بالباطل" (15).
وبهذا يتبين أن معاني الميسر والقمار والرهان والمخاطرة والغرر متقاربة إن لم تكن متطابقة هنا من حيث المقاصد، وعليه فإنه وبالنظر إلى التأمين وحقيقته نجد أنه مشتمل على وجود المقامرة والمخاطرة لأن المؤمن عليه الذي دفع قسطه قد يحصل عليه حادث أو حوادث فيحصل على التعويض المناسب فيكون رابحا وقد لا يحصل عليه شيء فيكون خاسرا، والتأمين مبني على عنصر الخطر والاحتمال، فلا يكون التأمين أبدا على حادث محقق الوقوع، ووجود الغرر والقمار في التأمين أمر معترف به عند الغربيين، فهو يدخل عند رجال القانون الفرنسي فيما يسمى : (Contrats aleatoirs) وهي عقود الغرر، أو العقود الاحتمالية، وهو عندهم مستثنى من القمار المحرم (16).
تساؤلات وأجوبة:
لكن … 1- هل تحريم القمار (الميسر) أو الغرر كان سدا للذريعة فيباح حينئذ للحاجة؟
2- وهل تحريم الميسر كله في درجة واحدة من التحريم أو في درجات متفاوتة؟
3- هل تحريم القمار (الميسر) أو الغرر مثل تحريم الربا؟ وعليه، ما موقف التأمين من كل ذلك؟.
1- بالنظر في كثير من الأدلة والأحكام وكلام العلماء نجد أن القمار (الميسر) والغرر مما حرم سدا للذريعة، وقد توسع في ذلك ابن تيمية في كتابه (القواعد النورانية) وفي بعض أجوبته كما في المجموع له، ويدل عليه قوله تعالى: "إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون" (17)، فأخبر سبحانه أن الميسر يوقع العداوة والبغضاء، فإن المطالبة بلا فائدة وأخذ المال بلا حق يوقع في النفوس ذلك (18)، وأيضا ما جاء في الحديث الذي رواه زيد بن ثابت: كان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبايعون الثمار فإذا جد الناس وحضر تقاضيهم قال المبتاع (أي المشتري): إنه أصاب الثمر دمان، أصابه مرض، أصابه قشام عاهات يحتجون بها، فقال رسول الله – لما كثرت عنده الخصومة في ذلك: "وايم والله فلا تتبايعوا حتى يبدو صلاح الثمر" كالمشورة يشير بها لكثرة خصومتهم، فقد أخبر أن سبب نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ما أفضت إليه من خصام.
2- القاعدة الفقهية تقول: ما حرم سدا للذريعة يباح للحاجة أو للمصلحة الراجحة" كما قرر ذلك جمهور العلماء كالعز بن عبدالسلام، والقرافي، وابن تيمية، وابن القيم، والمقري، وغيرهم (19)، وضابط الحاجة هو كونها متضمنة لمصلحة راجحة على المفسدة المفضية إليها الوسيلة.
3- يجدر الإشارة هنا – للإجابة على التساؤل الثالث- إلى أن الذريعة أو الوسيلة تتفاوت من وسيلة إلى أخرى، فقد تكون الوسيلة مقصدا وغاية لما دونها، وقد تكون الوسيلة تفضي إلى شرور ومفاسد قطعية وكثيرة، وقد تفضي إلى مفاسد وشرور ظنية أو محتملة وقليلة، وعليه فالحاجة التي تبيح الأخيرة لا تبيح التي قبلها للاختلافات، بل قد تصل تلك إلى كونها أشد في جنسها من بعض ما حرم تحريم مقصد من غيرها، والميسر بخصوصه يشمل أنواعا من المسائل التي يتفاوت إفضاؤها إلى الشرور والمفاسد قوة وضعفا، وقلة وكثرة، لذا يقول ابن تيمية: "الميسر اشتمل على مفسدتين: مفسدة في المال وهي أكله بالباطل، ومفسدة في العمل وهي ما فيه من مفسدة المال وفساد القلب وفساد ذات البين، وكل من المفسدتين مستقلة بالنهي فينهى عن أكل المال بالباطل مطلقا، ولو كان بغير ميسر كالربا، وينهي عما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقع بالعداوة والبغضاء ولو كان بغير أكل مال، فإذا اجتمعا عظم التحريم فيكون الميسر المشتمل عليها أعظم من الربا ولهذا حرم ذلك قبل تحريم الربا (20)، ويقول في موضع آخر: "وهذا أصل مستمر من أصول الشريعة كما قد بسطناه في قاعدة سد الذرائع وغيرها، وبينا أن كل فعل أفضى إلى ذلك المحرم كثيرا كان سببا للشر والفساد فإذا لم يكن فيه مصلحة راجحة شرعية، وكانت مفسدته راجحة نهي عنه، بل كل سبب يفضي إلى الفساد نهي عنه إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة فكيف بما كثر إفضاؤه إلى الفساد، ولهذا نهي عن الخلوة بالأجنبية، وأما النظر لها فقد كانت الحاجة تدعو إلى بعضه وخص منه فيما تدعو له الحاجة، لأن الحاجة سبب الإباحة، كما أن الفساد والضرر سبب التحريم فإذا اجتمعا رجح أعلاهما (21).
4- الأصل في الميسر أنه أقل حرمة من الربا إلا أنه قد يزيد عليه إذا اجتمعت فيه الشرور والمفاسد القطعية والكثيرة، لذا قال ابن تيمية: "فتبين أن الربا أعظم من القمار الذي ليس فيه إلا مجرد أكل المال بالباطل" (22)، وقال أيضا: "فالربا في ظلم الأموال أعظم من القمار… فلو لم يكن في الميسر إلا مجرد القمار لكان أخف من الربا لتأخر تحريمه، وقد أباح الشارع أنواعا من الغرر للحاجة" (23)، وفي موضع آخر يقول: "وتحريم الربا أشد من تحريم الميسر الذي هو القمار لأن المرابي قد أخذ فضلا محققا من محتاج، وأما القمار فقد يحصل فضل وقد لا يحصل" (24)، ويقول: "ومفسدة الغرر أقل من الربا فلذلك رخص فيما تدعو الحاجة منه، فإن تحريمه أشد ضررا من ضرر كونه غررا (25)، وبهذا يتبين أن القمار الذي ليس فيه إلا مجرد القمار أقل حرمة من الربا. بهذا السياق نصل إلى نقطة مهمة وهي: ما موقف التأمين مما سبق؟: عند تأملنا للتأمين نجد أنه مجرد مخاطرة بالمال مبنية على استفادة المؤمن عليه عند حصول الحادث المحتمل وقوعه، وخسارته قسطه عند عدم هذا الحادث وربح المؤمن في هذا الحال، فإذا علمنا خلو التأمين من المفاسد المنصوص عليها في الآية وهي الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وعدم وقوع العداوة والبغضاء به، خاصة إذا قام عقد التأمين على قواعد بنود واضحة وغير مجملة، وكان محررا من جهة (شرعية أنواعه). لم تكن مشكلته حينئذ إلا مجرد القمار الذي يغمر في جانب الحاجة الماسة والمصلحة الراجحة، والقاعدة الفقهية تقول: لا يجوز تعطيل المصالح الغالبة خوفا من المفاسد النادرة، والقاعدة الأخرى: أغلب ما بني عليه الشرع جلب المصالح الظاهرة ودرء المفاسد البينة" (26).
فكان النظر وقتها محصورا في مدى "الحاجة للتأمين" ومدى أرجحية مصلحته بالنسبة لمفسدته بناء على القاعدة التي ذكرتها وهي أن ما حرم سدا للذريعة يباح للحاجة والمصلحة الراجحة.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) الحظر والتأمين، د. رفيق المصري ( ص 57).
(2) نفس المرجع (ص 33).
(3) التأمين وأحكامه للدكتور سليمان الثنيان (ص 40).
(4) نفس المرجع (ص 212 – 240)، وبحث لبعض أعضاء اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء كما في مجلة البحوث (عدد 19) (ص 71 – 126).
(5) القاموس المحيط (ص 598).
(6) د. المصري – مرجع سابق – (ص 73).
(7) المدونة، كتاب الغرر (255/3).
(8) الإمام الشافعي (237/3).
(9) انظر المبسوط للسرخسي (101/15)، وتبيين الحقائق للزيلعي (132/4).
(10) سورة البقرة (آية 219).
(11) انظر تفسير الطبري (370/2)، وأحكام القرآن للجصاص (450/1)، والمصنف لابن أبي شيبة (280/5) (194/6).
(12) مجموع الفتاوى (283/19)، وانظر القواعد النورانية (ص 194).
(13) المجموع (22/29).
(14) إعلام الموقعين (266/3).
(15) الفروع (430/4).
(16) د. المصري – مرجع سابق – (ص66).
(17) سورة المائدة (آية 91).
(18) انظر الفتاوى الكبرى (30/4).
(19) انظر القواعد الكبرى للعز بن عبدالسلام (123/1)، (77/2)، والفروق للقرافي (62/2) الفرق (58)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (298/22)، و(46/29)، و (228/32)، وزاد المعاد لابن القيم (242/2) و بدائع الفوائد له (722/3) والقواعد للمقري (ق 146).
(20) الفتاوى الكبرى (473/4).
(21) نفس المرجع (472/4).
(22) نفس المرجع.
(23) نفس المرجع.
(24) مجموع الفتاوى (341/20)
(25) القواعد الكبرى للعز (138/1)، و (83/1).
(26) انظر الهامش رقم (2).



>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>> >>>>>>>>



ارجع للرابط التالي
http://www.islamtoday.net/articles/s...=128&artid=993