ان المعطيات والمفاهيم التي تؤدي إلى الاستنتاج.. وذلك يعتمد على علاقة الوعي بالواقع وبالتغيرات الفعلية. فوراثة الطرق والنظم القديمة في اجتماعيات المعرفة بزمن تغيرت فيه كافة الطرق، يتطلب تغير الطرق القديمة للمعرفة ولأساليب التفكير، وإلا فإن تلك الطرق ستنحرف عقلانيتها (منتهية الصلاحية)، مثل التحليلات القائمة على ردود الجدل المباشر والعاطفية وأحادية النظرة والخلط بين المناهج.. وهنا تتحول الثقافة إلى معرفة عامية هشة لا جديد فيها، تقول ما يقوله الناس العوام أو ما يتوقعونه أو يرغبون سماعه.


لو كان ل(الروتين) روحٌ تخفق أو لسانٌ ينطق أو عقلٌ يعي لاشتكى إلى كل حكّام العالم وحُكمائه مطالباً بالعدل إنصافاً له من كيد الكائدين له، وجور الجائرين من البشر الذين (يُسقطون) عليه كلَّ سَوءةٍ إدارية بسببٍ وبدونه، ناسين أو متناسين أنه (وُجدَ) في الأصل لخدمتهم لا لتحريض القنوطِ عليهم، أو استنفار ألسنتِهم بما يُنكره اللّبيبُ من الناس!
***
* و(الرُّوتين) ظاهرةٌ إداريّة يتجاذبُها مفهُومان: مفهُمٌ (فولكلوريٌّ) شعبيّ، ومفهُومٌ تنظيميّ.
* فالمفهُومُ الأول يُعرِّف (الروتين) بأنّه (تعقيد) وتطْويلُ الإجراءاتِ لإنجاز مهمة معيّنة، ويخْلع أصحابُ هذا المفهومُ نعتَ السّلبية المطلقة على (الروتين).. وكأنه داءٌ خَبيثٌ يتعذّر البَرْءُ منه.. أو نَبْتَةٌ سامّةٌ يتعيّن استئصالها!
***
* أمّا المفهُوم التّنظيمي ل(الروتين).. فيُعرِّفه بمجموعةٍ من الضوابط والإجراءات والتّعليمات التي ينبغي اتّخاذُها لإنجاز مهمّة معيّنة، وهو بهذه الصورة، في مثاليّتها الممكنة، ليس شرّاً مُسْتطيراً. بل ضرورةً تنظيميّةً تهدفُ إلى تحقيق إيجابيّة العدل والمساواة في تعامل الجهاز الإداريّ مع شرائح المستفيدين بخدْمته، أفراداً أو جماعات.. بدلاً من إخضاعِ البَتِّ في معاملةٍ ما لهوى صاحب المصلحة، أو مؤثّرات البيئةِ المحيطةِ بصانع قرارها، وما يَترتَّب على ذلك من ظواهر الحيف والإيثار.. لهذا المرءِ أو ذاك.. رغباً أو رَهَباً!
***
* هذا لا ينفي أن ل(الروتين) سلبياتٍ، لكنَّها ترتبط في الغالب بالممارسين له لا بالمبدأ نفسه، ومن ثمّ، فإن القولَ بأن السَّبيلَ لقهْر سلبيّة (الروتين) يكمنُ في إلغاء القواعد والضّوابط والإجراءات، وقولٌ كهذا يُشكّل توجُّهاً خطيراً.. وخطأً إدارياً فَادحاً لا تُحمدُ له عُقبى! ويذكِّرني هذا الموقفُ بمقولة قائدٍ عثماني حلَّ قبل عقود طويلة بإحدى قرى نجد في رابعةِ صيفٍ، وقد اشتكى من حراراته، فقيل له إنّها تعجّل بنُضْج الرّطب، فما كان من التركي باشا إلاّ أن أمرَ بقطع النخيل، زاعماً أن هذا الإجراء ينهي حرارة الصيف!
***
* الحلُّ، كما يراهُ العُقلاءُ من طلاّب الإدارة وممارسيها يتمثّل في الآتي:
(1) تَشْخيصُ المشكلةِ أو المشكلاتِ التي يشكُو منها الجمهور المستفيد بخدمة هذا الجهاز أو ذاك!
***
(2) إن كانت العلّةُ في (الأشخاص) المطبّقين لقواعد وإجراءات (الروتين).. فيجبُ تقويمُ أدائهم تصويباً أو تأديباً أو تدريباً، وغير ذلك من الوسائل التي يتطلّبها التصحيح القويمُ لمسار الإدارة المعنيّة.
***
(3) وإنْ كانت العلّة في القواعد والإجراءات التنفيذية لها، فيجبُ تقويمُها، مراجعةً وتعديلاً وتحديثاً بل واختصاراً، وصولاً إلى الغاية المنشُودَة.
***
(4) ويستوي مع ما ذُكِرَ أهمية تقويم مفاهيم البَشَر المتعاملين مع الإدارة، سواء كانوا من الموظفين.. أو من الأفراد المستفيدين بخدمة الجهاز:
أ - فالموظّف مطالب أن يخاف الله، أولاً وقبل كل شيء، سراً وعلانية، وأن يرعى المسؤولية المناطة به، وأن يعدِلَ في تعامله مع النّاس.
ب - والمستفيدون بالخدمة مطالبون أن يعوا حيثيّات العمل وإجراءاته وضوابطه، وأن البديل لذلك كله هو الفَوضى.. وأنّهم سيُعرِّضُون مصالحهم للبوار إن هُمْ أصرّوا على غياب تلك الضّوابط والإجراءات اعتقاداً منهم أن ذلك يخدمُ مصالحهم.. ويحقق غاياتهم.
***
* باختصار .. (الروتين) ضرورةٌ.. وقبل ذلك وبعده هو وسيلةٌ لا غايةٌ، والبشرُ وحدُهم، هم المسؤولون عن صلاحه أو طلاحه، سواء كانوا مشرّعين. أو منفّذين.. أو مستفيدين! لكن.. أن يتحول (الروتين) في الأذهان إلى عنصرٍ (مأكول مذموم) فمسألة فيها ألفُ نظر!


عبدالله الأهدل
صحفي سعودي