ذكر فضيلة الشيخ الداعية أحمد القطان هذه الواقعة المعبرة ، قال :
حكى لي رجل ذهب إلى الحج في الزمن السابق أيام كان المسلمون يسيرون في الدهناء وسط الطرق الوعرة ، يخرجون بالسيارات و لا يصلون مكة إلا بعد أسبوع .
يقول : كنت راكباً في السيارة بالخلف ، وإذا غرزت في رمال الصحراء الناعمة ، وقد ثقلت السيارة وجذبتها الرمال ، وكادت أن تقف ، وهي تحثو علينا من رملها الساخن بواسطة العجلات ، فتمتلئ أنوفنا وآذاننا وعيوننا ، وتغطينا طبقة من الغبار ، كنت أنزل من السيارة ثم أظل أدفعها من الخلف حتى أساعدها على النهوض والتخلص من الرمل ، فإذا عادت إلى سيرها الطبيعي قمت بالقفز وركبت من الخلف ، وكنت الوحيد الذي يركب بالخلف مع التموين .
وفي أحد الأيام مررنا بوادٍ واسع من الرمال الناعمة ، قد رسمت عليه رياح الشمال خطوطها ، و لا ترى فيها إلا عشيبات متناثرة تصارع الظمأ .
يقول : تثاقلت السيارة في سيرها ، فألقيت بنفسي ثم أخذت أدفعها ، وهي تتباطأ ويثور الغبار ، وأدفعها ويثور الغبار ، ثم فجأة أسرعت السيارة وعلق نعلي في الرمل ، فتأخرت أبحث مكان خطواتي لأخرج نعلي لأتّقي بها حرارة الرمضاء .
وأسرعت السيارة ، وظن السائق أنني ركبت ، والغبار يثور خلفه فلا يراني بالمرآة ، وواصلَتْ السيارة سرعتها ، وواصلْتُ أنا بحثي عن نعالي ، فلما وجدتها كانوا قد ابتعدوا ، وهبطت السيارة في وادٍ جديد من الرمال .
فأصبحت في حيرة ، هل ابحث عن نعلي ؟ أم أجري خلفها بأقصى سرعتي ؟
فتركتُ نعلي وجريتُ بما أوتيتُ من سرعة ، لكن السيارة نهضَتْ من عثرتها وانطلقَتْ بين الوديان بعيداً بعيداً !
ولم أعد أرى منها إلا نقطة حمراء ما لبثََتْ أن تلاشت عبر الصحراء ، ولم يذكروني ولو يلتفتوا إليّ ، فعدت أبحث عن النعال من جديد .
يقول : فوجدتها ولبستها ثم واصلت السير ، والقلب مني يخفق ، والنفس تتلجلج ، وأخذت أسير على أثر السيارة لعلهم يذكرونني عند وقوفهم لطعام الغداء بعد العصر ، فهم لا يستريحون إلا عند انكسار الشمس ويصلّون الظهر مع العصر جمع تأخير ، فلا بدّ أن يفتقدوني ويعودوا للبحث عني .
فلما جاء وقت الظهر وأصبح الظل تحت الحذاء ؛ حيث لا ظل إلا تحت القدم ، والشمس لها وهج أحسّ أنه يحفر أخاديد نيرانية داخل رأسي وجلدي ، وقد ألقيت على وجهي غطاء رأسي ، إذ بدأت الرياح تهب والرمال تلتوي كالثعابين تحتي ، ولو توقفت قليلاً أو جثوت على الأرض لغطّتني الرمال سريعاً ، فتلك الأراضي ذات كثبان متحركة ، ومعالمها متغيرة ، لا تستقر على حال .
وأثناء سيري كانت تغوص قدماي إلى الساقين مرة ، وأمر على كتل من الصوان ( الحجر الأملس ) مرة .
يقول : فلما بلغت الشمس كبد السماء وبدأت الرمال تتخلل بين فتحات النعل أحسست أنني أخوض في نار ، لا أدري ماذا كان شعوري ساعتها !
إلا أنني أرفع رجلاً و أخفض أخرى ، وأجثو مرة ؛ وأحبو على يديّ ورجليّ مرة ، وأضع غطاء رأسي تحت قدمي ، ثم أعود فأضعه على رأسي ، ثم أضعه تحت قدمي ، وهكذا ، حتى جفّ ريقي ، واحمرّت عيناي ، ولم أعد أرى جيّداً ، وصار لساني في سقف حلقي وكأنّه قطعة جلد متشقق ، أو الخشب اليابس ، وتمزقتْ شفتاي فتألّمت منهما ، إذا حركتهما نزفتا دماً ، وأخذت أسير وأنا أنظر إلى أصابع يديّ وقد تحولَتْ إلى سوداء نحيفة ، واجتاحني شيءٌ كالحمّى ، وقد كنت في الساعات الأولى أتعرق ، أما الآن فلا عَرِق ، وإنما يفوح من جسمي لسان نار لافح .
و ظللت في سيري ، لكنه سير الذي تملّكه الإعياء والتعب ، ولا يزال بعض معالم السيارة على الأرض حيث أن الرياح قد غطّت معظمها ، فكنت اسير مدة طويلة فلا أكاد أقع على اثرها إلا أن الله وفقني فسرت متحسساً آثارها .
وكلما اكتشفت اثراً لها من صعود أو هبوط كأنني عثرت على ماء ، لأن الأمل لا يزال يحدوني .
يقول : فلما بلغ الظمأ مني مبلغه و أخذت اسير وأترنح والدنيا تدور أمامي ، وقد مالت الشمس ، ولمحت من بعيد أشياء كأنها أشجار عالية ضخمة ، ثم رايتها بعد ذلك ترتفع في السماء ، ثم بدت كأنها شلالات وبحار ، فعلمت أنه السراب الخادع ، وتذكرت قوله تعالى : ( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب ) النور 39 .
يقول : ظل السراب أمامي وأنا لا أتبعه بل أتبع آثار السيارة ، وبلغ الحال بي أنني اخذت أسير وألتفت لعلي أجد عشبة تحتها أدنى ظل ، فأضع شفتي تحت ظلها أستروح هواءها البارد ، فلم أجد ، وأحسست بحريق في كبدي ، وأخذت أزحف على يدي ورجلي ، والرمال تملأ فمي ، لكنني لم أيأس من روح الله ورحمته .
وبينما أنا على هذه الحال إذ ألهمني الله كلمة ( ولنبلونكم ) ثم وقفت وأخذت أستجمع فكري فإذا هي آية من كتاب الله تذكرتها جيداً .
( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ، الذين إذا اصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) البقرة 155-157.
فما إن تذكرتها بقلبي ومرت بخاطري واستوعبها عقلي إلا و أحسست أن فرج الله قريب ، وكأنني بين أهلي وولدي ، وأن رحمة الله قريب من المحسنين ، وواصلت زحفي فإذا بي أرى من بعيد نقطة خضراء ، فقلت : ويحي !! هل هي عشبة ؟ !! يجب أن اسرع إليها وأضع رأسي تحتها و اموت عندها .
يقول : فلما اقتربت ونظرت ، أذهلتني المفاجأة ، وتعجبت من سرعة إجابة دعائي ، فإذا هي حبة ( بطيخ ) قد سقطت من السيارة وهم لا يعلمون .
يقول : فأخذت أزحف و أترنح حتى ألقيت نفسي عليها ، وأخذْتُ أنفاسي ، ثم كسرتها ووضعت وجهي عليها كي أحس ببردها ، ولم أطق أكلها لشدة بردها ، وبدأت اصرخ من شدة الألم ، لكن نزلت بعض القطرات في فمي وأحسست بها كنزول الماء على الحديد المحمّى ، ثم أخذ لساني يلين قليلاً ، وتلين شفتاي ، وأعود أمرغ وجهي فيها ، ويذهب الألم شيئاً فشيئاً .
يقول : وأخذت منها قضمة صغيرة أخذت تحفر لها طريقاً في فمي حتى استقرت في المعدة فبرد اللهيب ، فأخذت أغرف مما فيها وأشرب حتى ارتويت ، فقد رزقني الله الماء والغذاء ، والحمد لله رب العالمين .
ثم أخذت ماتبقى من قشرها ووضعته على رأسي ثم وضعت الغطاء عليه ، ثم وقفت بعدما ارتويت وذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر ، ثم أخذت نصفها الباقي، وهو أغلى شيء عندي بالدنيا ، وتذكرت ساعتها حب الله : أن يكون حبي له أكثر من حب الماء البارد على الظمأ .
وواصلت المسير بخطى ثابتة أحمل بكلتا يديّ نصفها ، والنصف الباقي على رأسي ، وقد مالت الشمس إلى الاصفرار وانكسرت واقترب الغروب ، وإذا بهم عائدون يبحثون عني بنفس الطريق ، فوقفت أنظر إليهم وأنتظرهم ، فلما وصلوا إليّ قالوا : أحيٌّ أنت ؟!!
قلت : نعم !!
قالوا : وكيف ؟!
قلت : إن الحي الذي لا يموت قد رزقني هذه البطيخة يوم أن أوشكت أن أموت .
فحملوني حتى وصلنا مكان التخييم ، واسترحنا تلك الليلة وتابعنا سيرنا بحمد الله ورحمته ، فيا لها من نعمة !!
يا لها من نعمة لا تقدر بثمن يوم أن يحس العبد وهو في سرائه أو ضرائه أن ربه قريب منه مجيب لدعائه ، فهو وحده الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ، سبحانه وتعالى .
انتهى .


للجميع تحية عطرة من المواصل