كتبت الكاتبة والمؤرخة هتان الفاسي عن البريد السعودي في جريدة الاقتصادية وأضعه هنا لعل المسؤولين البريد الذين تعودنا منهم التطنيش يستحوا هذه المره ويردوا على الاستفسارات التي تكتب كل يوم عن البريد

تقول الكاتبة




لاقى موضوع المعاناة مع البريد السعودي تجاوباً من القرّاء والقارئات اتضح من خلاله أن المعاناة مشتركة، وأن هناك الكثير أمام البريد ليطوره على مستوى خدماته ومستوى تعاملاته ومستوى الضبط والحفاظ على حقوق المتعاملين بالبريد. والحديث عن البريد يستدعي إدراك الدور الذي يلعبه البريد في حياة الناس.
ربما من المفيد الإشارة إلى عمق تعامل العرب مع البريد وارتباطه بالحضارة الإسلامية وتنظيم الدولة شؤونها وولاياتها من خلال تأسيس نظام بريد منذ بداية العصر العباسي توقف عليه الأموال والخيول والاستراحات وأميال الطريق وغيرها من متطلبات وصول الرسالة من طرف إلى آخر في الدولة الإسلامية. وربما يعتبر البريطانيون هم أول من أحدثوا نقلة في نظام البريد بتحويله إلى مؤسسة لخدمة الأفراد كما تخدم الدولة في القرن التاسع عشر، واستحدثوا لها طابع البريد الذي لا يسجل عليه اليوم أي اسم باعتباره عنواناً على المملكة المتحدة. وتطور نظام البريد خلال القرن العشرين بحيث أصبح الملايين من البشر يعتمدون عليه في التواصل ونقل الأخبار وتبادل المعرفة وقضاء الحاجات والمصالح، وكلما كانت الدولة متقدمة انعكس ذلك في احترامها للبريد ورفع مستوى خدماته ليصبح أكثر سهولة في الوصول وأكثر سرعة في الاستلام، وفي رفع عدد مرات الجمع وعدد مرات الاستلام في اليوم الواحد.
وعندما نصل إلى البريد السعودي نجد عجبا. نجده لا يدرك أهمية خدمة البريد في المقام الأول، ولا يدرب موظفيه على إدراك هذه الأهمية. فنجد موظفين يستغربون عندما تُرجع بريداً لا يخصك وربما يتبسم، وتجد جندياً مهمته منع وصول أصحاب صناديق البريد إلى صناديقهم قبل وقت الصلاة بربع ساعة إلى ما بعد الصلاة، وآخرون يتبرمون عندما أطلب الحديث إلى أحدهم على جوّال سائقي عندما يحدث سوء تفاهم خاص بإحدى إرسالاتي البريدية أو متابعة لطرد بريدي ضائع، وأصبح في وضع لا يحتمل بين غطرسة الموظف وعدم استجابته لأداء خدمة أطلبها أو أبحث عنها، وعدم قدرتي على الحضور شخصياً لمتابعة الأمر والرد عليه.
أما ما يضيع في البريد دون تحملهم أدنى مسؤولية فحدّث ولا حرج. أولاً لا أمل في البريد العادي فهذا بريد لا يُفترض فيه أن يصل في المقام الأول، وبالتالي ليس من حقي المطالبة به، وإن أردت لبريد ما أن يصل فلأجعله مسجلاً أو ممتازاً، على افتراض أنه أكثر ضماناً، مع أن 99 في المائة من بريد العالم هو بريد عادي والفرضية فيه أن يصل إلا في النادر. ويتحجج بريدنا كثيراً بالجمارك التي تفتش وتصادر ليبرروا تأخر بريدهم الممتاز، وهي حجج في غالب الأحيان مردودة لأن حقوق الناس تحتاج إلى ضبط حتى لو أن الجمارك تتدخل، بحيث إنه من الواجب أن يكون هناك ضبط زمني كذلك لتدخل الجمارك. هذا فضلاً عن عشوائية هذا التفتيش الذي يصيب البريد الداخلي والذي لا يحمل معنى ولا هدفا. فعلى سبيل المثال كنت أنتظر طرداً يحمل كتاباً في اللغة العبرية من مكة المكرمة إلى الرياض في عام 1423، وهو كتاب كنت أنتظره لتعويض مكتبة الجامعة مقابل كتاب استعرته وفقدته، فلم يصل بحجة أن هذه كتب ممنوعة.
ومن القصص المخجلة لبريدنا تلك الخاصة بأحد الأقرباء الذي كانت لديه تعاملات كثيرة مع الولايات المتحدة الأمريكية من تسديد فواتير وبنوك وجلسات محاكم وغيرها من شؤون خاصة بعمله، وكان في بداية أمره يعتقد أن بريدنا مثل بريد العالم أجمع، فكان يقضي كل شؤونه عن طريقه، فيسدد فواتيره، ويرسل شيكاته، وإذ به بعد عدد من الإحباطات والخسائر التي نتجت عن مواعيد فواتير سددت ولم تصل فترتب عليها غرامات، أو شيكات انتهى كذلك زمن تحصيلها ولا بد من العودة لتقديم طلب إرسال بديل، وجلسات محاكم تأخرت أوراقها في الوصول وترتب عليها مطالب مالية، وخسائر البريد السعودي الممتاز الذي لا يستطيع موظفوه متابعة إرسالياته وكل ما يمكن أن يقدموه هو التعجب (معقول؟؟ لم يصل؟؟ لا يمكن ذلك) وكأن المتعاملين يكذبون أو يتقولون. لقد وجد أن لا ضمان لدى بريدنا، ولا مسؤول يتحمل المسؤولية، ولا بريد عاديا ولا ممتازا يمكن أن تكون له مصداقية. أضمن طريقة هي ترقب أحد المسافرين إلى أوروبا وتجميع الرسائل دفعة واحدة ليرسلها معه من هناك عند وصوله.
ثم نجد أن البريد وكأنه استفاق فجأة ليحسن من أوضاعه بعد أن فات عليه الزمان وزهد الناس في قدرته وإمكاناته وضبطه واحترامه ولجأوا إلى وسائل أحدث من بريد إلكتروني وجوّال وبريد سريع خاص وغير ذلك. أي أن مجهوداته تأتي في الوقت الضائع وفوق ذلك يتصرف وكأنه ما زال يتسيد الموقف ولا يحرص على أن يقدم خدمات متميزة بأسعار منافسة تنافس وسائل الاتصال الحديثة. فنجده يطرح خدمة "واصل"، فما هي؟ هي عبارة عن خدمة تقوم على إيصال البريد إلى المسكن ولكن تُوضع داخل صندوق يركبه البريد، وهي خدمة كما نعرف تُقدمها دول العالم ابتداء من العالم الأول إلى العاشر منذ القرن الماضي ولم تصلنا إلا الآن. وهي تقوم، كما نعرف، على ضرورة وجود عنوان واضح من رقم منزل واسم شارع وخرائط واضحة، وقد بدأت تتوافر في بعض أحياء الرياض لحسن الحظ، وعلها في مناطق المملكة كذلك.
لكن إيصال البريد السعودي لهذه الخدمة إلى المنزل هي خصوصية سعودية، إذ إنها بمقابل. هناك مقابل على تأسيس الصندوق الذي يعلق أمام الباب (199 ريالاً) ومقابل سنوي عن كل فرد يستخدم الصندوق (300 ريال سنوياً)، مع ملاحظة أن هذه المعلومة الخاصة بقيمة الاشتراك لا تجدها مكتوبة لا على طلب الاشتراك ولا خطاب الدعوة للاشتراك ولا في الموقع الإلكتروني للبريد، ولا تجده إلا عند الاتصال بالهاتف المجاني وتتحدث إلى إحدى الموظفات أو الموظفين. وفي حين أن هذه الخدمة سواء كانت بصندوق أو بمجرد إيصال البريد إلى المسكن معروف في كل أنحاء العالم بما فيها أكثر الدول فقراً في آسيا وإفريقيا بالمجان، لأن الخدمة البريدية سبق ودفعها المرسل عن طريق طوابع البريد، لكننا نجد أنها لدينا بهذا المقابل الذي ليس له موقع حتى في النظام الأساسي للدولة.
فوفق المادة العشرين: "لا تفرض الضرائب والرسوم إلا عند الحاجة وعلى أساس من العدل. ولا يجوز فرضها أو تعديلها أو إلغاؤها أو الإعفاء منها إلا بموجب النظام". فحبذا لو أمكن رئيس مؤسسة البريد السعودي، الدكتور محمد صالح بنتن، أن يذكر لنا الحاجة التي لأجلها فرض رسوماً على خدمة إيصال البريد إلى المسكن، والمرسوم الملكي الذي صدر بهذا الخصوص. هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإننا نجد أن الصندوق الذي يعلقه البريد ليحمل البريد الواصل إلى المسكن يحمل رقماً بريدياً خاصاً، ويا حبذا لو تم أيضاً إيضاح سبب استحداث رقم رباعي أو خماسي جديد يضاف إلى عنوان المنزل ورقمه الذي ما صدقنا أن البلدية قد وضعته. وما الحكمة من ذلك، إن لم تكن أن يصل البريد إلى المنزل حسب العنوان الأساسي للمسكن.


تحياتي


رابط الموضوع

http://www.aleqtisadiah.com/article.php?do=show&id=2083