التفت الى صاحبي وقلت له :
هل تفهم شيئا في التأويل..؟ ماذا تقصد؟ سألني. أجبت: في مسألة الظاهر والباطن، هل تعني مذهب الإمام ابن حزم، في الأخذ بظاهر النص، أو ما تقول به فرق الباطنيين، وغلاة الصوفية، من أن النصوص لها معنى ظاهر، وآخر باطن.

لا.. لا.. ليس هذا ما عنيت، دعني أشرح لك.

حينما تقول لزوجتك أنك كنت مدعوا عند (فلان)، وأن الأكل كان لذيذا.. وأن ترتيب المائدة كان آية في الذوق والنظام. هل يعني هذا أنك (تنتقد) طبخها، وطريقتها في ترتيب المائدة؟ وهل يمكن أن تواجهك زوجتك فتقول: أنت (تتآمر) عليّ. أنت تحب امرأة أخرى..؟ لقد سمعت أنك تفكر في الزواج من ثانية. هل كلامك عن طبخ زوجة صديقك، أو ثنائك على بيته المرتب، يعني أنك لا تحب زوجتك، وتكره بيتك، وطريقة ترتيبه..؟ هل تريد مني إجابة؟ انتظر دعني أعطيك مثالا آخر..

موظف في إحدى (الشركات)، يرى ممارسات خاطئة، ويعلم عن تجاوزات. يحس أنه جزء من هذه (الشركة)، وأن مثل هذه التجاوزات، ستؤدي في النهاية إلى انهيار الشركة، تحدث مع أكثر من شخص، عن خطورة هذه التصرفات على مستقبل الشركة، وحاول بأكثر من طريقة أن يسمع صوته، ورأيه لكبار المسؤولين في الشركة، عن خطورة هذه الممارسات. ثم لفت نظره، بعدم الحديث عن هذا الموضوع، فامتثل للأمر. لكن المسالة لم تقف عند هذا الحد. أصبح كل ما يقوله (يفسر) بأنه يقصد به الشركة، وأنه (يتآمر) على بقائها، من خلال تحريض الموظفين. مرة قال: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، فاتهم بأنه (يقصد) أن يقول للموظفين، إن تغيير واقع الشركة، لن يتم إلا إذا قاموا، هم بأنفسهم، بتصحيح أوضاعها ومحاسبة المقصرين. ومرة كان يتحدث مع أحد زملائه عن قضية اجتماعية، فقال: "لا يستقيم الظل والعود أعوج"، فقالوا إنه يقصد إدارة الشركة.

هذا كثير جدا... كان الله في عونه، هل انتهيت؟ لا.. دعني أسوق لك قصة أخيرة، كاتب في إحدى دول العالم الثالث، كتب مرة، فاستشهد ببيت من الشعر، للشاعر الكبير محمد إقبال، يقول فيه:

قيثارتي ملئت بأنات الجوى... لابد للمكبوت من فيضان

لقد تم استدعاؤه، ووجهت إليه تهمة التحريض، والدعوة للتمرد، وتهديد الأمن والاستقرار. كما تم تفتيش بيته تفتيشا دقيقا، للبحث عن قيثارته، وتفريغها من كل (أنات الجوى)، وصدر أمر بتحطيمها، إذا اقتضت (المصلحة العامة). إضافة إلى ذلك، تم تحويله إلى (محقق) مختص، لمعرفة مستوى، ونوعية الكبت الذي لديه، وقياس الدرجة التي وصل إليها الكبت عنده، ومدى الخطورة التي يشكلها على النظام الاجتماعي، والمؤسسات المدنية.

يا الله.. وصل الأمر إلى هذا الحد... إلى محاكمة النوايا، لماذا لا تكتب عن هذه القضية. إنها جديرة بالمناقشة؟

- (.....)

حاول يا أخي... لا تيئس.

- (قيثارتي ملئت بأنات الجوى...) ماذا تقصد؟

- كنت قد سألتك في البداية هل تفهم شيئا في التأويل، وقلت لي: هذا كثير.. يجب أن لا يصل الأمر إلى محاكمة النوايا.

أنا لا أقصد شيئا. فطبخ زوجة صاحبي لذيذ، وكذلك طبخ زوجتي، وأؤمن أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، كما أن قيثارتي ملأى بأنات الجوى وليس من حق أحد أن يطالبني، أن أحدد له نوع أنات الجوى التي تمتلئ بها (قيثارتي)

* البوح الأخير
* تبقى الكتابة هما شائكا... إذا كنت مهموما... ماذا تكتب؟ وإذا كنت محزونا... ماذا تكتب؟ لن تكتب إذا كنت مسرورا... لأنك ببساطة، لن تكون.

كيف نبث أوجاعنا... ولمن نبثها..؟ للأعمدة التي تظل طول الليل منتصبة، تحدق في الظلمة، بأنوارها الخابية..!

لمن نبثها.. إذا لم يكن هناك أحد يسمعنا، فضلا عن أن ينظر إلينا..!

للفراغ الذي يتوسع على حساب همومنا الممتدة بلا نهاية..؟

للقلق الذي يتضخم في أنفسنا، التي تبحث في سراديب الأسئلة؟

لمن يجب أن نصغي.. للقلب أم للعقل..؟ ما الفرق بينهما..؟

من الذي سيقودنا للسكينة والطمأنينة منهما..؟

إذا كان القلب موجوعا، كيف يهتدي العقل..؟ إذا كان العقل مشتتا. كيف يرتاح القلب؟
مأساتنا أننا نعيش المثالي بكل (طوباويته)...

وفي المساء حينما يغفو كل شيء، بما في ذلك حلمنا المثالي، يبقى شيء واحد فقط..، مستيقظا..

واقعنا الموحش..

هل ترين التناقض..؟ الذي نريده أن يغفو هو الذي يبقى مستيقظا..

والذي نريد أن نعيشه يبقى حلما..