عبدالله الجعيثن
سامرية لابن لعبون رددتها الأجيال وتغنى بها العشاق

قصيدة اليوم لعلم مشهور من أعلام الشعر الشعبي الأصيل.
وشعر ابن لعبون ينساب كالوادي في مجراه، وكما يروي الوادي ما يمر به من شجر وبشر، يروي ابن لعبون المشاعر، وقد يتعمق فيها بنبرة اسى صادقة، فيها نظرة أو زفرة إنسانية حارة، قد تبدو جزءاً من الشعر المنساب ولكنها قادرة على التعبير وحدها، لأنها خلاصة تجربة ومعاناة، عبرت عنها موهبته الأصيلة بشكل مكثف..

كما يشكل النداء والتكرار في قصيدته الآتية أجنحة محلقة تسرع بايصال عاطفته إلى السامعين.. وقبل هذا تحرر عاطفته التي تلوب في داخله، وتعمل على تخفيف الألم الوجداني بالنداء درءاً للوحدة مع عاطفته الموجعة، فكأنه بالنداء والتكرار وترجيع القافية والجرس الموسيقي المغنى (سامري) يذيب همه الفردي في الهم الجماعي..

وإلى القصيدة المشهورة:

"يا علي صحت بالصوت الرفيعء

يا مره لا تذبينَ القناعء

يا علي عندكم صفرا صنيع

سنها يا علي وَقءمَ الرباع

نشتري يا علي كانك تبيع

بالعمر.. مير ما ظنِّي تباع

شاقني يا علي قمرا وربيع

يوم انا آمر وكل أمري مطاع

يوم أهلنا وأهل مي جميعء

نازلين على جال الرفاع

ضحكتي بينهم وأنا رضيع

ما سوت بكيتي يوم الوداع

هم بروني وأنا عودي رفيع

يا علي مثل ما يبرى اليراع

طوَّعوني وأنا ما كنتء اطيع

وغلبوني وانا ظفر شجاع

وجءدَ عيني على ظبيٍ تليع

عندكم كنَّ في خده شماع

شيبتني وانا توِّي رضيع

جاهل توِّ في سنّ الرضاع

سايمين الهوى يامن يبيع

سايمين الهوى لأهل الرفاع

وأنت يا لايمي جعلك تضيع

ما تماري بها مثل الشعاع

ودي اسلاه والكون الفنيع

سلوتي يا علي ما تستطاع

دون مي الظبي وام الرضيع

والثعالب وتربيع الشراع

وراس ريع دخلٍ في بطن ريع

مستطيلٍ ووديانٍ وساع"

@@@

هذه القصيدة قالها ابن لعبون بعد رحليه إلى البحرين في (الرفاع) التي هي الآن جزء كبير من (المنامة)..

وفي القصيدة - رغم تكرار النداء - إيجاز بليغ، يشق المعاني ويركزها في الذهن في بيت واحد..

مثل قوله:

شاقني يا علي قمرا وربيع

يوم انا آمر وكل امري يطاعء

فلفظة (شاقني) معناها أثار وجدي وشجوني وذكرياتي.. بلفظة واحدة اختصر كل هذا..

لفظة مشحونة..

وفي التركيب:

يوم انا آمر وكل امري يطاع

كناية بليغة.. وموجزة.. تصور الحال كله بين ماضٍ وحاضر.. في بيت.. واحد..

وهذا البيت الفلسفي الذي فيه تقابل يجلي المعنى:

ضحكتي بينهم وانا توي رضيع

ما سوت بكيتي يوم الوداع

قد يذكرنا بقول أبي العلاء المعري:

إنَّ حزناً في ساعةِ الموتِ أضعا

ف سرورٍ في ساعة الميلادِ

@@@

والقصيدة يمتزج فيها الحب مع الذكريات والشكوى ووصف ما آلت إليه حاله بعد هذا العشق الذي بدله تبديلاً.. من النقيض إلى النقيض.. فصار طائعاً وكان شموساً عنيداً، وأصبح مغلوباً وهو الظفر الشجاع، ورغم أنه نحيل فقد زاده الحب نحولاً، وبراه كما يبرى قلم الرصاص!

ثم هو يتوجد على الحبيب ويتحسر من المهالك التي دون الوصول إليه:

دون مي الظبي وام الوضيع

والثعالب وتربيع الشراع

وراس ريع داخل في بطن ريع

مستطيل ووديان وساع

كأنها في واق الواق، وهي في البحرين مسيرة ساعة الآن.. ولكن وقتها - وفي زمن ابن لعبون - هناك فياض وقفار، وذئاب وضباع، وقطع الصمان والدهناء، وصعود جبال ودخول وديان، ثم ركوب بحر هايج على (لنج شراعي) تلعب به الرياح ويشفي راكبه على الهلاك!..

كم تغير الزمان!

@@@

ومن شعر الوجد في أدبنا العربي قول توبة بن الحميِّر:

"نأتك ليلى دارها لا تزورها

وشطّتء نواها واستمر مريرها

حمامة بطن الواديين ترنمي

سقاك من الغر الوادي مطيرها

أبيني لنا لا زال ريشك ناعماً

ولا زلت في خضراء دانٍ بريرها

أيذهب ريعان الشباب ولم أزرء

عرائر من همدان بيضاً نحورها

أرتنا حمام الموت ليلى وراقنا

عيون نقيات الحواشي تديرها

ولو أن ليلى في ذرى متمنع

بنجران لا لتفت عليَّ قصورها

يقول أناس: لا يضيرك نأيها

بلى كل ماشفَّ النفوس يضيرها"

والفرق بين الغزل والوجد، أن الأول فيه تشبيب بالحبيب، وتركيز على أوصافه الجميلة..

أما الوجد فهو (موجدة عاطفية) ممزوجة بعشق الحبيب والتحسر على الماضي ورثاء ما آلت إليه النفس..

الوجد يميل أكثر إلى الشجن والحزن..

وإن كان الغزل والوجد كلاهما نابعان من الحب..

@@@

و(التوجد) في الشعر الشعبي أكثر منه في الشعر الفصيح، على ما أعرف، ومعناه (التلهف) ولكن كثيراً من الأبيات الشعبية تستخدم لفظة الوجد محرفة إلى (يا وجودي) كقول دبيان بن عساف:

يا وجودي على هرجة خفي السراير

وجد خطو العجوز اللي توفي ولدها

وكلمة (وجد) أبعد من كلمة (حزن) وأقرب إلى الشعر والمشاعر، فهي لفظة موحية وجامعة، فيها من المعاني: التهلف، الشوق، التحرق، الشجن، والتذكر أيضاً..

وقد يستعمل الشعراء الشعبيون عبارة (يا تَلّ قلبي) للتعبير عن الوجد، وابن سبيل يستعملها كثيراً، كقوله:

يا تَلَّ قلبي تل ركب لشمشول

ربع مشاكيل على كنس حيل

وقوله:

يا تل قلبي تل شمشول الأسراق

خذوه ظفران سروا حايفينه

وهي في شعره كثير.. ومردد في شعر غيره..

وهي (حادة) أكثر من لفظة (الوجد) ولكن الأخيرة أبلغ، فهي أرقى تعبيراً، وأرق جرساً، وأكثر غموضاً، وأقوى ايحاء لأنها تحمل كثيرا من المعاني كما قدمنا، فهي أقرب إلى الكناية، وتعبير (يا تل قلبي..) فوق أنه حاد، فهو مباشر مطفي الايحاء، وإن كان كناية عن العذاب، ولكن أن يُتَلَّ القلب بمعنى ينزع بعنف أو يجر بقوة، أمر صارخ، ولعل عدم وروده في الفصيح اطفأ بريقه، بعكس قول أبي الطيب:

"واحر قلباه ممن قلبه شبم"

فحرارة القلب موحية.. ولكن لفظة (الوجد) بشاعريتها وظلالها تكثر في الشعر الشعبي الحديث أكثر من القديم، يقول خالد ا لفيصل:

انا نديم الوجد في ليل الأشجان

أجاذب نجوم الليالي غزلها

@@@

وقد يستخدم الشعر الشعبي (آه) للدلالة على الوجد أيضاً.. وابن سبيل استخدمها مرات..

كقوله:

قالوا كثر شيبك وقلبك بعمياهء

قلت آه لو قلبي غرير نهيتهء

قالوا تجوز كود تدله وتنساه

قلت آه لو اخذت أربع ما نسيته

قالوا اندور لك من البيض حلياه

قلت آه لو غيره بكفي رميته!

ومطاوع قلبي بعوجاه وقذاه

وإلى عطا منهاج درب عطيته!!

يا ناس خلوا كل وادي ومجراه

قلتوا كثير وقولكم ما لقيته!!

وابن سبيل شاعر محَلِّق.. و(الآه) أفضل من (ياتل قلبي) في ذوقنا الحاضر على الأقل، ولفظة (الوجد) وردت كثيراً في الشعر العربي، وهي متلالئة في بيت ابن الدمينة:

ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد

لقد زادني مسراكِ وجداً على وَجءدِ