السلام عليكم

لا شك أن الحالة الصحية للمريض تلعب دورا أساسيا في تحديد أولوية العلاج. قد لا تضيف هذه الجملة معلومة جديدة لدى القارئ الكريم، (وإن كانت هذه الجملة على إطلاقها لا تعكس الواقع المعاش لأسباب ليس المجال في تفصيلها). لكن هل يستمر سيناريو أولوية العلاج على أساس طبيعة الحالة الصحية دون تغيير؟ بمعنى هل تكون أولوية العلاج لمن تكون حالته الصحية تتطلب التدخل الطبي بشكل مباشر؟ أم أن التعامل مع المريض ستكون له منطلقات أخرى؟
دخول شركات التأمين في العلاقة بين مزود ومتلقي الخدمة العلاجية جعل هناك "بردايم شفت" في عقلية مزود الخدمة العلاجية والطبيب المعالج على وجهه الخصوص. فمثلا تصور عزيزي القارئ أنك طبيب ولديك ثلاثة مرضى من ستكون له أولوية العلاج؟!
المريض الأول: سيدفع من جيبه الخاص ووفق التسعيرة المحددة سيدفع "كاش".
المريض الثاني: سيتم تأمين الخدمة العلاجية من خلال شركة تأمين صحي. تعلم كطبيب من خلال خبرتك السابقة أن شركة التأمين تتأخر في دفع مستحقاتها المالية. كما أنها تجادلك في قراراتك الطبية. فمثلا إذا طلبت للمريض أشعة أو تحليلا في المختبر، ستتم مساءلتك من قبل شركة التأمين لماذا تم طلب أشعة مقطعية؟ أو الرنين المغناطيسي (MRI)؟ .. وإذا صرفت علاجا سألتك شركة التأمين لماذا تم صرف كل تلك العلاجات؟ وقد تقول شركة التأمين إن علاجا واحدا يكفي وبقية العلاجات ليست أساسية. أما إجراء العمليات الجراحية فتتطلب موافقات خاصة من قبل شركة التأمين.
علاوة على ذلك فإن شركة التأمين سوف لن تدفع لك مباشرة، بل عليك الانتظار حتى تتكرم عليك شركة التأمين ليس بدفع قيمة التشخيص المعتمدة، ولكن بعد حسم مبلغ لا بأس به من قيمة الفاتورة الأساسية. وقد لا تقتنع شركة التأمين من مدى دقة التشخيص ما يخولها لدفع جزء يسير من قيمة الفاتورة وعلى الطبيب المعالج أو مزود الخدمة العلاجية دفع بقية المصاريف.
أحب أن أنوه أن الدافع من عدم اقتناع شركة التأمين من قيمة الفاتورة ليس من باب تحري الدقة في التشخيص العلاجي، ولكن من باب المحاولة من أجل تقليل قيمة الفاتورة العلاجية، لذا فالمراجعة تقتصر عادة على الفواتير مرتفعة القيمة. فإذا كانت فاتورة العلاج محدودة فلن تضطر شركة التأمين لمراجعتها لأن أولوية تكون عادة للفواتير المرتفعة. كما أن الفريق العامل لدى شركات التأمين لهم محفزات خاصة بقدر جهدهم في تقليل قيمة الفاتورة العلاجية.
لا شك أنه يحق لك كطبيب أو كمزود للخدمة العلاجية رفع دعوى قضائية على شركة التأمين، لكن عليك الانتظار لبرهة من الزمن لحين صدور حكم قد يكون في صالحك. ولذا فإني أقترح إضافة مادة القانون من ضمن المنهج الدراسي لطلبة الطب حتى يتمكنوا من أخذ بعض حقوقهم المسلوبة من قبل شركات التأمين.
المريض الثالث: لديه تأمين صحي شامل وخدمة vip هذا المريض لديه تغطية صحية شاملة. فقد كفيت عناء البحث عن الحدود التي تدفعها شركة التأمين لهذا الشخص، وإن كان قد يختلف تعريف الخدمة المميزة من شركة لأخرى. لكن شركة التأمين سوف لن تدفع لك مباشرة وسوف تصر على الحصول على حسومات على قيمة الفاتورة
فمن ستكون له أولوية العلاج أولا؟
قد يكون لالتزام الطبيب بأخلاقيات المهنة دور في الكيفية التي سيتعامل معها الأطباء مع مرضاهم لكن يظل الالتزام بأخلاقيات المهنة سلوكا شخصيا قد يختلف الالتزام به من شخص لآخر.
لا أظن أنني في حاجة للإجابة عن السؤال السابق وإلا كان هذا السؤال شبيها بأسئلة المسابقات المطروحة عبر رقم 700. لكن ما أريد الوصول إليه من هذا السياق أن قرارات الطبيب مرتبطة بالتغطية الطبية وخبرة مزود الخدمة مع شركات التأمين التي تنمو مع السنين. قد لا تكون جميع خبراتك مع شركات التأمين إيجابية لكن السلبي منها قد يسبب لك إحراجا مع مرضاك مما يدفعك - إن كنت من أصحاب النخوة - للتنازل عن بعض حقوقك في سبيل الله ومن أجل المحافظة على سمعتك الطيبة. لا شك أن مرضى بعض القطاعات كشركة أرامكو السعودية لهم أولوية دون سواهم بسبب تنافس مزودي الخدمة العلاجية لكسب هذا القطاع المميز، لكن تظل شركة أرامكو السعودية متفردة دون سواها في تعاملها مع مزودي الخدمة العلاجية.
إحساس مزودي الخدمات العلاجية بالغبن من بعض شركات التأمين التي ستنمو مع مرور السنين سيقود بعض الأطباء لأن يشخص حالة المريض بطريقة تمكنهم من الحصول على جميع مستحقاتهم المالية. لذا فسيحاول بعض الأطباء جاهدين لوضع التشخيص الذي لا يحمل كثيرا من الاحتمالات من أجل إقناع شركة التأمين بصحة التشخيص ومناسبة العلاج المصروف لحالة المرضى. لكن لا يعني هذا بالضرورة أن يعطى المريض علاجا لا يتناسب مع وضعه الصحي لكن من أجل التغلب على بعض الصعوبات الإدارية والمالية. فمثلا ذكر لي أحد الأطباء قبل فترة ليست بالبعيدة أنه يضطر لكتابة التشخيص بطريقة تمكنه من أخذ حقه من شركة التأمين، كما لا يخل بواجبه الأخلاقي والمهني تجاه المريض.
البعض الآخر سيحاول جاهدا زيادة القيمة المدفوعة على الفاتورة العلاجية، فخبرته تخبره بأنه سوف لن يحصل على حقوقه كاملة لذا يضطر لزيادة التكلفة العلاجية عبر طرق ملتوية لا تخفى على الطبيب الحاذق حتى يتمكن من أخذ أجره كامل حتى بعد خصم شركة التأمين من المبلغ المرفق مع الفاتورة. لذا فالتشخيص الآن لدى الطبيب له تبعات عدة يجب أن ينظر إليها قبل كتابة التشخيص والعلاج. فنحن لا نعيش في مجتمع مثالي لذا فبعض الأطباء أصبح تفكيره ماديا قبل أن يكون إنسانيا. وللأسف أن هذا التوجه ليس فقط في المجال الطبي، بل إنه امتد إلى مجالات الحياة جميعا. فمثلا هندسة المباني والطرق وصناعة السيارات أصيبت بملوثات النظرة المادية الصرفة.
من هنا فإن الرعاية الصحية ستعتمد على مدى صدق تعامل الجهات الثلاث، الجهة المعالجة ومدى جودة الخدمة المقدمة من قبلها، شركة التأمين ومدى التزامها الأخلاقي مع المريض والجهة المعالجة، والمريض ومدى صدقه وعدم إساءة الخدمة المقدمة عبر مزودي الخدمة العلاجية. لاشك أن الخلل من قبل إحدى الجهات سيؤثر في الجهات الأخرى مما سيدفعها للمطالبة بسن تشريعات أخرى لحمايتها. هذه الإجراءات ستستمر تبعاتها مما سيؤثر سلبا في جودة الخدمة المقدمة وفي التكلفة العلاجية.

منقول