عن ابن المرزبان قال:
ذكرت أعزّك الله زماننا هذا وفساد مودة أهله وخسَّة أخلاقهم ولُؤم طباعهم وأن أبعد الناس سَفراً من كان سفره في طلب أخٍ صالحٍِ، ومن حاول صاحبا يأمن زلته ويدوم اغتباطه به كان كصاحب الطريق الحيران الذي لا يزداد لنفسه إتعابا إلا ازداد من غايته بُعداً فالأمر كما وصفتُ، وقد يروى عن أبي ذر الغفاري رضي اله عنه أنه قال: " كان الناس ورقا لا شوك فيه، فصاروا شوكاً لا ورق فيه " ، وقال بعضهم: كنا نخاف على الإخوان كثرةَ المواعيد وشدة الاعتذار أن يخلطوا مواعيدهم بالكذب، واعتذارهم بالتزيُّد، فذهب اليوم، من يعتذر بالخير، ومات من كان يعتذرُ من الذنب
قال لبيد:
ذهب الذي يُعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلَفٍ كجلد الأجربِ
وأخبرنا أبو العباس المبرِّد قال: حدثني بعض مشايخنا قال: كنت عند بشر بن الحارث يوماً، فرأيته مغموما ما تكلّم حتى غربت الشمس، ثم رفع رأسه فقال:
ذهب الرجال المُقتدى بفعالِهم ... والمُنكرونَ لكلِّ أمرٍ مُنكرِ
وبقيتُ في خلَفٍ يزيِّن بعضُهم ... بعضاً ليدفع معوِرٌ عن مُعوِرِ
وأنشدنا لغيره:
ذهب الذين إذا رأوني مُقبلا ... سُرُّوا وقالوا مرحباً بالمُقبلِ
وبَقِي الذين إذا رأوني مُقبلا ... عبسوا وقالوا ليته لم يُقبِلِ
وقال آخر:
ذهب الناس واستقلوا وصرنا ... خلَفاً في أراذلِ النسناسِ
في أناسٍ تراهمُ العين ناساً ... فإذا خبِّروا فليسوا بناسِ
وقال آخر:
ذهب الملحُ من كثير من النا ... سِ ومات الذين كانوا مِلاحا
وبَقِي الأَسمجونَ من كل صنفٍٍ ... ليت ذا الموت منهم قد أراحا
وقال آخر:
ذهب الذين إذا مرضت تجهَّلوا ... وإذا جهلت عليهمُ لم يَجهلوا
وإذا أصبتُ غنيمةً فرحوا بها ... وإذا بخِلتُ عليهمُ لم يبخَلوا
وأنشدني أبو عبد الله السدوسي:
ذهب الذين هم الغياث المُسبَلُ ... وبقِي الذين هم العذاب المُنزلُ
وتقطَّعت أرحامُ أهل زماننا ... فكأنَّما خُلِقت لئلا توصَلُ
الناس مشتبهونَ من كشَّفتَهُ ... مِنهمْ كشفتَ عن الذي لا يُحملُ
أمّا الفقيرُ فحاسدٌ متفطرٌ ... حسداً وأمّا ذو الثراء فيبخَلُ
ويظنُّ أنَّ له بكثرةِ مالهِ ... فضلا عليك وغيرُهُ المتفضِّلُ
وقال آخر:
ذهب الكرام فأصبحوا أمواتا ... وَرَقاً تُطيِّرهُ الرياحُ رُفاتا
وتبدَّلت عرصاتُهم مِن بعدهم ... بسوى نبات الصالحين نباتا
وبقيتُ في دهرٍ أحاذرُ شرَّهُ ... وأخافُ فيهِ من الطريقِ بَياتا
وقال آخر:
وما الناس بالناس الذين عهدتُهم ... ولا الدارُ بالدارِ التي كنتَ تعرِفُ
وما كلُّ من تَهوى يحبَّكَ قلبُهُ ... ولا كلُّ مَن صاحبتَه لك مُنصفُ
وقال آخر:
ذهب الناس وانقضت دولة المج ... دِ فكلٌّ إلا القليلِ كلابُ
إنَّ من لم يكن على الناس ذئبا ... أكلتهُ في ذا الزمان الذئابُ
غير أنَّ الوجوه في صور النا ... س وأبدانُهم عليها الثيابُ
لستَ تَلقي إلا كَذوباً بخيلا ... بين عينيهِ للإياسِ كتابُ
وقال آخر:
ذهب الذين صلاتهم معلومةٌ ... ولهم إذا قحط الزمان حَنانُ
ذهبوا فليسَ لهم نظيرٌ واحدٌ ... أفلا تراهم لا أبالَكَ كانوا
لم يبقَ مِن أهل الفضائل والنُّهى ... إلا فلانٌ باسمِهِ وفُلانُ
وقال آخر:
ذهب الذين عليهمُ وجدِي ... وبقيتُ بعدَ فراقِهم وحدي
سلفٌ مضى وبقيتُ بعدهمُ ... وكذاك يذهبُ من أتى بعدي
تركوا الذي جمعوا لغيرهمُ ... وكذاك أتركهُ لِمن بعدي