أيام تذكرها قبل الوداع.. فبكاء وهو يتبسم..




لحظة جميلة .. آه يا لها من لحظة ليست كأي لحظة..

وقف فيها أمام مياه نهر صغير هناك بعيد عن بلاده ..

نكش بعود صغير في يده الرمل الذي على ضفاف النهر..

تكدر الماء قليلاً ثم تجدد وعاد له صفاؤه من جديد ...

ذلك الماء الذي هو سر بقائنا وحياتنا..




تبسم وهو يتذكر تلك الأيام الخالية..

وارتسمت على وجه ابتسامة عريضة وكبيرة..

أحس برغبة عارمة لضحك وقور أو ابتسامات كبيرة وكثيرة..

لكنه وفي نفس الوقت كانت عيونه تفيض دموعاً ساخنة..

كان يضحك ويبكي..!




كان يضحك حينما يتذكر تلك المواقف الجميلة الباسمة..

أيام مغامرات مخفيَّة.. وتعاون حثيث لاهث..

وكان يبكي لأن أجمل ما فيها وأعز ما فيها قد ذهب وتلاشى..

تقاطرت الدموع من عينيه وتساقطت في مجرى النهر..


قطرة بعد قطرة..

والنهر أثناء سقوطها يهتز قليلاً، قليلاً..

وتتوسع دوائره ثم تتلاشى بسرعة مع انسياب النهر الصغير..

انبعثت من قلبه صورة، وُرسمت بريشة الخيال على وجه الماء ..

رسمت ذلك الوجه الطفولي الرائع..




حاول أن يخرج صورتها من قلبه لكنها متعلقة بقوة..

أصبحت منه وفيه لا يمكن أن يزحزحها من ذاكرة أيامه..

لقد رسخت رسوخ كتابات القدماء على الصخور..

لن تزيلها أقسى العواصف..

لقد ظنها صوراً عابرة..




صورة جميلة طفت على وجه الماء رسمت صورة طفلته الضاحكة..

لقد ظن أنها سرعان ما ستزول عند جريان الماء..

لكنها وكلما جرى النهر عادت ريشة الخيال ترسمها..

وفي كل مرة؛ وكأن وجه المياه تحولت إلى مرآة صافية جامدة، أو كأنها لوحة قد رسمت ونقشت في قلب صفيح صخرٍ في قلب الهرم..




ياله من شعور غريب أن نبكي ونبتسم في آنٍ واحد!

يا له من أمر عجيب أن تختلط الدموع بضحكاتنا!

آه.. إن الصوت لا يزال طرياً في أذنه..

يتردد في أذنه كصوت تلك العصافير التي حوله الآن..

بل إن صوت عصفورته الصغيرة أجمل بكثير..




صور.. دموع .. ابتسامة.. هي ثلاثية لغة الوداع..

إنه الإبحار منه وإليه في كل لحظة..

صورته دائماً أمامه..

شغلته عيونه التي رأى فيها مصيره كله..

صار شغله كله البحث عنه في كل مكان..

والهروب منه في أي مكان..


أصبح لا يرى في وجه الناس إلا ما يشبه وجه..

عينه، صوته، جماله، صوته، همسه..

هارب منه، باحث عنه.. لا يدري ما يفعله..

قلبه لا يطيق فراقه، لكن لابد أن يفارق..


هناك وفوق غصن صغير غض ..

رأى طائراً يغرد وحده..

فقال: إنه مثلي يبكي ويغني وحده..

لكنها لحظة واحدة ووقف بجواره طائر آخر وأخذ يبادله الغناء..

ثم طارا بعيداً واختفيا..


ولأنه ليس بوسعه أن يطير إلا وحده..

ولهذا وجد نفسه مجبورة أن يقسوا على عليه وعلى قلبه..

هكذا أرادت الأيام..

وهكذا كتب لغة وداعه الأخيرة مختلفة..

ليقول آخر كلماته والتي لن تتكرر أبداً..

هكذا نطق وقال.. إنه بكى وضحك لك ومن أجلك..

هكذا هرب من عيونك من همسك من صورتك..

ليقول كلمته الأخيرة..أنه هرب وتلاشى لأجلك..

وختم رسالته وكلمته الأخيرة بها..

المخلص أبداً ودوماً.