لا تزال تداعيات مؤتمر "ماردين" الذي انتهت فعالياته نهاية مارس الماضي، مستمرة وتثير سجالا بين فرقاء متنوعين. المؤتمر ناقش فيه المجتمعون الظروف التاريخية التي صدرت فيها فتوى "ماردين" الشهيرة، للفقيه الحنبلي المعروف بابن تيمية الحرّاني، التي أصدرها منذ نحو 700 عام.
ويمكن القول بأن أبرز ما حمله المؤتمر هو الوقوف ضد تسييس الفتوى، من قبل بعض الجماعات المسلحة، في إشارة إلى القاعدة والتكفيريين، الذين يقومون بموجبه بأعمال عنف تصبغ باسم الإسلام، وتحقيقاً للمفهوم العقدي "الولاء والبراء". المؤتمر نظمه المركز العالمي للتجديد والترشيد، ومقره العاصمة البريطانية لندن، بقيادة العلامة الموريتاني الشيخ عبدالله بن الشيخ المحفوظ بن بيه، و"كانوبس للاستشارات"، بالتعاون مع جامعة "ارتكلو" في "ماردين"، جنوب شرق تركيا.
انتقادات مبطنة
صاحب المراجعات "الشهيرة" مع الجهاديين في السجون الليبية، الدكتور على الصلابي، انتقد بشكل مبطن المؤتمر، قائلاً "لا يمكن مناقشة فتوى، بحيث تبدو وكأنها السبب فيما يحدث، فلا يمكن التركيز على جزئية، وتغيب أن ابن تيمية صاحب مشروع إصلاحي، وشخصية عظيمة"، مضيفاً "المسلمون بحاجة لمراجعة شاملة للتراث الإسلامي، معتمدين على القواعد العامة للشريعة ومستلهمين روح المقاصد".
غياب شخصيات مؤثرة
يستطلع الراصد لأسماء المشاركين في المؤتمر، غياب الشخصيات العلمية السلفية المؤثرة، المحسوبة على المؤسسة الدينية الرسمية في السعودية، والاكتفاء بشخصيات أكاديمية من الأقسام الإسلامية بجامعات المملكة، كالدكتور عايض الدوسري. وهو الغياب الذي مثل نقصا في المؤتمر في نظر البعض، خصوصا أن فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، تعد واجهة لفصائل التيار السلفي بمختلف مكوناته، هذا يبين أن المؤتمر حوى بين حضوره شخصيات فقهية معروفة بتوجهها الصوفي، -أو غير المتجانس مع فكر ابن تيمية- كالحبيب علي الجفري، ما أعطى إشارة إلى إمكانية وجود خلفية مذهبية لدى البعض، رغم شعار مواجهة الإرهاب.
انتقادات السلفيين
وكانت المواقع القريبة من التيار السلفي، وعلى رأسها موقع "الدرر السنية"، شنت هجوماً على المؤتمر وبيانه، محذرين "العلماء والدعاة والمفكرين من أن يكونوا أداة يستخدمها الغرب في ضرب ثوابت الإسلام، ويحققوا بذلك - من حيث شعروا أو لم يشعروا- استراتيجياتهم، ومخططات مراكز دراساتهم واستشاراتهم، كمؤسسة راند وغيرها، بحجة بناء شبكات معتدلة في العالم الإسلامي"، مشيرين بلغة صريحة إلى "التحذير من المؤتمرات والمراكز الإسلامية المستَغْفَلة أو المشبوهة، بعرض بياناتها وتوصياتها على الكتاب والسنة، وليستعينوا بالعلماء الراسخين في العلم، والدعاة الربانيين الذين لم يتأثروا بضغوط الواقع "وما بدَّلوا تبديلاً"، بحسب ما ورد في الموقع المذكور.
لماذا فتوى ابن تيمية؟
أما سبب اختيار المؤتمر، لفتوى ابن تيمية، في تصنيف مدينة ماردين في عصره منطلقا للبحث، يعود ذلك بحسب الشيخ بن بيه "لما تختزنه من دلالات علمية وحضارية ورمزية متميزة"، مضيفاً أن "ابن تيمية بما ألهمه الله من فهم للشريعة، وفقه للواقع، تجاوز في تصنيفه لمدينة ماردين تقسيم الديار الشائع بين فقهاء المسلمين إلى دار إسلام الأصل فيها السلم ودار كفر الأصل فيها الحرب، ودار عهد الأصل فيها المعاهدة والمهادنة - إلى غير ذلك من التقاسيم- ليخصها بتصنيف مركب يمتنع بموجبه فتنة المسلمين، في دينهم وتصان فيه دماؤهم وأموالهم وأعراضهم، وتتحقق فيه العدالة بينهم وبين غيرهم".
من جهته طالب عضو المكتب التنفيذي للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الدكتور علي القرة داغي بأن لا يتطرق إلى هذا النوع من الفتاوى إلا "العلماء الراسخون، وأن تكون الفتوى جماعية في مثل هذه القضايا الخطيرة"، وأشار أن فتوى "ماردين" تم إسقاطها على الواقع بشكل خاطئ، مما أدى إلى نتائج كارثية، على حد قوله.
اختلاف الواقع السياسي مع الفتوى
ويشير مراقبون في الفقه الإسلامي أن فتوى ابن تيمية في "أهل ماردين"، فتوى متميزة في طرحها، مشابهة في واقعها إلى حد كبير لعصرنا، حيث اختلف الواقع السياسي للعالم عن واقع الفقهاء السابقين، الذي كان مناطا لتقسيمهم للديار على هذا الأساس، وهو ما راعاه ابن تيمية في فتواه، وهو ما يقتضي أن يعيد الفقهاء المعاصرون النظر في هذا التقسيم، لاختلاف الواقع المعاصر الذي ارتبط فيه المسلمون بمعاهدات دولية، يتحقق بها الأمن والسلام لجميع البشرية، وتأمن فيه على أموالها وأعراضها وأوطانها، واختلط فيه المسلمون بناء على ذلك بغيرهم اختلاطا غير مسبوق في كثير من جوانبه السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، ولحاجة المسلمين إلى الرؤية الشرعية الصحيحة التي لا تخالف النصوص الشرعية، وتتوافق مع مقاصد الشريعة، وتتكيف مع الواقع المعاصر.
تنقيح التراث الفقهي
المؤتمر خرج بمجموعة توصيات، وصفها بعض من حضروا بأنها "تقع في دائرة إعادة التراث الفقهي الإسلامي"، خاصة في الفتاوى الملتبسة والتي تتعلق بالسلام والتعايش السلمي بين الأمم والأديان.
فمن بين تلك التوصيات، تأسيس مركز "ماردين" لدراسة النظرية السياسية في الإسلام، وإحداث شعب وأقسام دراسية في الجامعات والمعاهد الإسلامية العليا تعنى بالبحوث والتدريب والتأهيل في مجال الإفتاء في القضايا العامة للأمة، وتشجيع الدراسات العلمية النظرية والتطبيقية في مجال تنقيح المناط ودراسة علاقة الزمان والمكان والأشخاص والأحوال بتغير الفتوى. كذلك أوصى المجتمعون بتشجيع الدراسات والبحوث العلمية الأكاديمية، التي تعنى بدراسة الظروف والملابسات التاريخية لفتاوى أئمة الإسلام، مع بذل مزيد من الجهد في مراجعة وتحقيق ودراسة تراث شيخ الإسلام ابن تيمية، وتراث العلماء المقتدى بهم، باعتبار أثرهم في الأمة، وما يرجى من فهم تراثهم فهما سليما، من ترشيد وتوجيه للعامة والخاصة.
إخوان في الإنسانية
وبحسب منظمي المؤتمر والذي أتى بمشاركة علماء دين من مختلف التخصصات ذات العلاقة، درس أحد أهم أسس العلاقات بين المسلمين وإخوانهم في الإنسانية؛ وهو تصنيف الديار في التصور الإسلامي، وما يرتبط به من مفاهيم كالجهاد والولاء والبراء، والمواطنة، والهجرة، لأهمية هذا التصور الفقهي في تأصيل التعايش السلمي، والتعاون على الخير والعدل بين المسلمين وغيرهم، إذا أحسن فهمه وفقا لنصوص الشريعة الإسلامية السمحة، وقواعدها ومقاصدها العليا.
محاور ماردين
وحوت أجندة المؤتمر أربعة محاور، وأول هذه المحاور، فتوى "ماردين" الزمان والمكان والظروف والملابسات. والمحور الثاني، هو مفهوم الموطن والمقر في الفقه التقليدي وفي ضوء العولمة والاتصالات الحديثة. أما المحور الثالث، فكان أهمية الفتوى في سياق التاريخ الإسلامي. والمحور الرابع والأخير تناول فهم الجهاد، وظروف القتال المسلح وقواعد الاشتباك، كما تم تعريفها من قبل ابن تيمية وميثاق الأمم المتحدة.
يبقى السؤال الأهم والمشروع في صياغة المراجعات والمؤتمرات الفقهية هو، هل ستكون لهذه المراجعات الفقهية أثر في عودة البعض ممن اعتنقوا الفكر الجهادي عن مبتنياتهم، أم أنها مجرد أدوات وعي لا تتجاوز جدران تلك المراجعات؟
نص فتوى ماردين.. وإجابة ابن تيمية
سئل ابن تيمية عن بلد "ماردين"، هل هي بلد حرب، أم بلد سِلْمٍ؟ وهل يجب على المسلم المقيم بها الهجرة إلى بلاد الإسلام أم لا؟ وإذا وجبت عليه الهجرة ولم يهاجر وساعد أعداء المسلمين بنفسه أو ماله هل يأثَم في ذلك؟ وهل يأثَم من رماه بالنفاق وسَبّه به أم لا؟
فأجاب قائلا "الحمدلله، دماء المسلمين وأموالهم محرمة حيث كانوا في ماردين أو غيرها. وإعانة الخارجين عن شريعة دين الإسلام محرمةٌ سواءٌ كانوا أهل ماردين أو غيرهم. والمقيم بها إن كان عاجزًا عن إقامة دينه وجبت الهجرة عليه، وإلا استحبت ولم تجب. ومساعدتهم لعدو المسلمين بالأنفس والأموال محرمة عليهم، ويجب عليهم الامتناع من ذلك بأي طريقٍ أمكنهم من تغيبٍ أو تعريضٍ أو مصانعةٍ؛ فإذا لم يمكن إلا بالهجرة تعينت. ولا يحلّ سبهم عمومًا ورميهم بالنفاق؛ بل السبّ والرمي بالنفاق يقع على الصفات المذكورة في الكتاب والسنة فيدخل فيها بعض أهل ماردين وغيرهم. وأما كونها دارَ حربٍ أو سلمٍ فهي مركبةٌ: فيها المعنيان؛ ليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام، لكون جندها مسلمين، ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفارٌ، بل هي قسمٌ ثالثٌ يعامل المسلم فيها بما يستحقه ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه".
من أبرز نتائج إعلان مؤتمر "ماردين"
إن فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية في ماردين لا يمكن بحال من الأحوال أن تكون متمسكا ومستندا لتكفير المسلمين، والخروج على حكامهم، واستباحة الدماء والأموال، وترويع الآمنين، والغدر بمن يعيشون مع المسلمين، أو يعيش معهم المسلمون بموجب علاقة مواطنة وأمان، بل هي فتوى تحرم كل ذلك، فضلا عن كونها نصرة لدولة مسلمة على دولة غير مسلمة، وهو في كل ذلك موافق ومتبع لعلماء المسلمين في فتاواهم في هذا الشأن، ولم يخرج عنهم.
ومن استند على هذه الفتوى لقتال المسلمين وغير المسلمين، فقد اخطأ في التأويل وما أصاب في التنزيل.
• إن تصنيف الديار في الفقه الإسلامي تصنيف اجتهادي، أملته ظروف الأمة الإسلامية وطبيعة العلاقات الدولية القائمة حينئذ.
إلا أن تغير الأوضاع الآن، ووجود المعاهدات الدولية المعترف بها، وتجريم الحروب غير الناشئة عن رد العدوان ومقاومة الاحتلال، وظهور دولة المواطنة التي تضمن في الجملة حقوق الأديان والأعراق والأوطان، استلزم جعل العالم كله فضاء للتسامح والتعايش السلمي بين جميع الأديان والطوائف، في إطار تحقيق المصالح المشتركة والعدالة بين الناس، ويأمن فيه الناس على أموالهم وأوطانهم وأعراضهم وهو ما أقرته الشريعة، ونادت به منذ هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ووضع أول معاهدة تضمن التعايش بين جميع الطوائف والأعراق، في إطار العدالة والمصالح المشتركة، ولا يسوغ التذرع بما يشوبها من نقص أو خرق دول معينة، لها للتنكر لها وافتعال التصادم بينها وبين الشريعة السمحة.