من الأشياء التي قد تلفت المسافر العربي إلى الغرب، تلك الألفة الكبيرة التي يتعامل بها معظم مواطني تلك البلدان مع خرائط الطرق الورق. وتُظهر تلك الخرائط تفاصيل الطرق واسماءها وتفرّعاتها واتجاهاتها واشاراتها وغيرها. ولا يعني ذلك أنها تُغني دوماً عن سؤال الآخرين للحصول على معلومات أكثر تفصيلاً. ومع انتقال تلك الخرائط إلى عالم التكنولوجيا الرقمية، تبدّلت الأمور كثيراً. لم يعد دور الخريطة يقتصر على توضيح جغرافيا الطرق، بل أُضيف اليها إمكان التعرّف على أحوال السير، وتبدّل حال حركة المرور، والتعرّف إلى مناطق الازدحام واختناقاته، إضافة إلى عرض صور حيّة للمُدن وغيرها. وجعلت تلك الأشياء الخرائط الرقمية «مرآة» تعكس المشهد اللامرئي للمدن وطرقها. ويمكن القول أيضاً إن التكنولوجيا الرقمية، أدّت إلى تغيير جذري في فن رسم الخرائط. وشاركت في إحداث هذا التغيير الأقمار الاصطناعية والحواسيب الإلكترونية.

باختصار، تعامل الغرب مع خرائط الطرق الورق واتقن فنونها لفترة طويلة، قبل الانتقال الى مرحلة الخرائط التي يصنعها الكومبيوتر، والتي تتلقى معلومات منتظمة من الأقمار الاصطناعية.




يسمح الأطلس الرقمي بوضع كثير من المعلومات عن جغرافيا المكان
في هذا السياق، دخل لبنان في مجال الخرائط الرقمية أخيراً. فقد تمكن فريق من ثلاثة مبرمجين لبنانيين من تجهيز برنامج الإلكتروني، بالاستناد الى منجزات التكنولوجيا الإلكترونية عالمياً، وأضافوا مفاتيح عدّة الى ما هو معتمد عالمياً، تسهيلاً لاستخدامها ممن يرغب بالتجوّل في لبنان من خلال خرائط إلكترونية. ومن المستطاع وضع هذا البرنامج الرقمي داخل جهاز كومبيوتر صغير محمول باليد. ومن المتوقع ان تصدر نسخة منه يمكن وضعها في الهواتف النقّالة. والأهم انه يتوافر في جهاز إلكتروني خاص به، يتصل بالأقمار الاصطناعية، فيُحدّد موقع المستخدم، ويتعرّف الى احتياجاته، ويرشده أثناء سيره على الطرق.
يُمثّل ما سبق وصفاً للبرنامج الرقمي «المرشد - لبنان» الذي وضعته شركة «أوريون للملاحة الرقمية» Orion Digital Navigation، الذي يعرض خرائط سياحية رقمية للبنان. وتحتوي خرائط لبنان الرقمية على الآلاف من الأماكن المهمة مثل الأماكن الأثرية، والفنادق والمطاعم ومحال الترفيه والمصارف ودور العبادة والمراكز الصحية والمستشفيات والصيدليات ومراكز التسوق ومراكز خدمة السيارات والمرائب والمؤسسات التعليمية والمراكز الحكومية وشبكات الصراف الآلي وغيرها. ويتوافر البرنامج في جهاز إلكتروني يتصل بالأقمار الاصطناعية عبر «نظام تحديد المواقع العالمي» Global Positioning System، الذي يُعرف أيضاً باسمه المُختصر «جي بي أس» GPS. وقد طرحت الشركة أجهزة خرائطها الرقمية في سوقيْ المملكة العربية السعودية والأمارات العربية المتحدة، إضافة الى محلات الإلكترونيات الكبرى في لبنان. كما تعتزم توفيرها قريباً في بقية الدول العربية، إضافة الى دول أُخرى في أفريقيا وأوروبا وأميركا.

في سبيل السياحة


أصبح كومبيوتر اليد أداةً للتعرف الى ملامح الأرض

تستعمل الخرائط الإلكترونية في الأجهزة التي تحتوي برنامج «المرشد - لبنان»، وسائل سمعية - بصرية لعرض المعلومات. فتوفر، مثلاً، إرشادات مرئية - مسموعة تُعين المُستخدم في التعرّف الى الطريق المطلوبة وكيفية السير في منعرجاتها للوصول إلى مقصده. ويُفسح البرنامج مجالاً لكي يُضيف المستخدم على الخريطة أماكن تهمّه، مثل المنزل ومكان العمل وعناوين الأصدقاء وغيرها.ويراعي النظام قوانين السير في لبنان، فيُنذر الجهاز مُستخدمه عندما تتجاوز سيارته الحد الأقصى المسموح به للسرعة.
وتعتمد الملاحة في هذا الجهاز على نظام يستقبل الإشارات من نظام» جي بي أس» GPS للأقمار الاصطناعية. ويتواصل مع شبكة الإنترنت. ويتميّز بشاشة تعمل على اللمس. ويعمل حالياً باللغة الإنكليزية وسوف يطرح في الأسواق باللغة العربية بعد مدة قصيرة. ويتوافق برنامج «المرشد - لبنان» مع نظام تشغيل الكومبيوتر «ويندوز موبايل بوكيت»، الذي تصنعه شركة «مايكروسوفت» خصيصاً لكومبيوتر الجيب. كما يوجد مكتب يعنى بشؤون الزبائن يقوم بإعلام المستخدمين بأي مستجدات تطرأ على الطرق في لبنان. وقد تبنت هذا المشروع وزارة السياحة اللبنانية من ضمن سياستها في تطوير الصناعة السياحية.

عود على بدء


لم تأت الخريطة الرقمية اللبنانية على نحو مفاجئ، فهي نتيجة تفاعل مع حركة التحديث الإلكتروني عالمياً. فالمعروف أن وزارة الدفاع الأميركية أطلقت عام 1978 أول قمر اصطناعي في منظومة «نظام تحديد المواقع العالمي»؛ وتولت تحديد الوقت الذي يتطلبه وصول إشارات القمر الاصطناعي الى الأرض، والتي تحملها موجات الراديو.
وكان الهدف من ذلك النظام تمكين أسطول الغواصات النووية الأميركية من تحديد مواقعها بسرعة. وبعد نهاية الحرب الباردة، عمل الرئيس الديموقراطي بيل كلينتون على نقل «نظام تحديد المواقع العالمي» الى الاستخدام المدني.
وما لبثت أن استقطبت الخرائط الإلكترونية قاعدة كبيرة من متسلقي الجبال والمهندسين المدنيين، بفعل الكميات الكبيرة من المعلومات التي توفرها، إضافة الى قدرتها على الاتصال بالأقمار الاصطناعية والاستفادة من نظام «جي بي أس». واستحوذ موقع MapQuest.com منذ إطلاقه عام 1996 على حصة واسعة في ذلك السوق المُتنامي. ووضع آخرون من مطوري برامج الكومبيوتر تطبيقات رقمية أتاحت نسخ خرائط المواقع الإلكترونية وإعادة عرضها.
وفي البداية، احتاج مطورو برامج الكومبيوتر إلى حواسيب سريعة ذات قدرة تخزين كبيرة، لإدارة تلك الخرائط ومحتوياتها الغنية والمتشابكة. وأنهمك بعضهم في صنع خرائط رقمية تتوافق مع نُظُم تشغيل الكومبيوتر المفتوحة المصدر مثل نظام «لينوكس» Linux والتي تُسهل المشاركة في الملفات والبيانات والمعلومات والخرائط وغيرها. وحاول المبرمجون كذلك إقناع مالكي قواعد البيانات الرقمية الضخمة على الانترنت، بتطويع حقوق الملكية الفكرية لتسهيل عمليات الدخول المشروع الى تلك القواعد، ما يعود عليهم بمردودات مالية كبيرة.
وحازت شركة «أمازون.كوم» قصب السبق حين وضعت الفكرة حيز التطبيق. وأطلقت في العام 2003 تطبيقات رقمية تسمح للمبرمجين بالتنقل بين قواعد بيانات خاصة، وسحب أي معلومات منها، وتقديمها على مواقع إلكترونية بأي وضعية يختارونها. ويعد عام 2005 عام الخرائط الإلكترونية بامتياز؛ إذ شهد طرح خدمة الخرائط الإلكترونية مدعومة بصور الأقمار الاصطناعية في قسم «غوغل ايرث» Google Earth. وتلى ذلك ظهور «أم أس إن فرتشوال ايرث» MSN Virtual Earth على موقع «أم أس إن» الذي تملكه شركة «مايكروسوفت»؛ وكذلك «ياهوو مابس» Yahoo Maps، وموقع «مابس .ايه 9» Maps.A9 على موقع «امازون»؛ و «ديجتال غلوب» DigitalGlobe وغيرها. والأرجح أنها المرة الأولى التي تتاح فيها مثل هذه الخدمة مجاناً للأفراد العاديين بعد أن كانت مقتصرة على المؤسسات العسكرية، والشركات ذات الاختصاص.



توجّه الأقمار الاصطناعية حركة المرور في المدن الغربية
إن هذا التطور السريع في أنظمة المعلومات الجغرافية، جعل استخدامات الخرائط الرقمية التفاعلية الملاحية، مع ما تتضمنه من فوائد، تنتشر بسرعة عبر مواقع الانترنت وشبكات الهواتف المحمولة؛ ما ضاعف قاعدة انتشارها واستعمالها، فتوسع سوقها بوتيرة سريعة.
وإذ أتاحت هذه الخرائط فيضاً كبيراً من المعلومات، حفزت المبرمجين على فك شيفرة برنامج «غوغل إيرث». وأخذوا يضيفون ويعدلون عليه، ما جعل صُنّاعه يرحبون بهذا التدخل ويشجعونه. وسرعان ما أعطى «غوغل» هؤلاء المبرمجين أداة مهمة، عندما كشف تركيب «واجهة التطبيق للمبرمجين» Application Programmers Interface ، فتعززت قدرة المُتدخلين على إضافة المزيد من المعلومات الى خرائط «غوغل ايرث».
ووجدت الخرائط الرقمية في السيارات الحديثة سوقاً واعدة. وانتشرت أجهزتها في تلك السيارات، لكي ترشد السائقين أثناء تنقلاتهم الداخلية والخارجية. وراهناً، تظهر شاشة الخرائط الإلكترونية، مع نظام التوجيه عبر الأقمار الاصطناعية، في الطُرز الحديثة للسيارات. انه العالم، تحمله معك في سيارتك، ويراقبك من القمر الاصطناعي، فتزداد العلاقة بين الآلات والبشر والشركات والمجتمعات والدول تشابكاً وتعقيداً.


ولكم احترااامي...

اخوكم رحــــــــــــــــااال....