وكأن المملكة العربية السعودية كانت هي المتسبب في المذابح التي طالت كل شيء وحيّ في الشقيقة لبنان،وقبله أرض ثاني القبلتين فلسطين،إذ ما أن راع المملكة قيادة وشعباً،مثلما ينبغي أن يروع كل إنسان،دع عنك مسلماً وعربياً ، ما حل بالأشقاء من جائحة العدوان الصهيوني الوحشي،فاتجهت أصابعها إلى مكمن العلة،الذي ظلت تحذر منه دائماً،وهو الدخول في مغامرات دون الإعداد لها جيداً.
سهم أخطأ هدفه
ما أن أعلنت المملكة هذا الرأي بحرفة من يطأ الجمرة - إذ لا مجال هنا للتملص من المسؤولية عن الدم العربي سواء في لبنان أو فلسطين - حتى قامت قيامة من ظلوا يقبعون في الظلام تربصاً،وكل رصيدهم في دعم مآسي الأمة العربية لا يتجاوز بضع كلمات استُهلكت في مآتم هذه الأمة،وما أكثر مآتمها في هذا العصر،ولم تقعد قيامتهم بعد.
المراهقة السياسية الساذجة وحدها تفهم أن نصرة الأخ المظلوم هي أن تصفق له وتحثه مشجعاً ليرمي بنفسه في المحرقة.
وإذا لم تكن المراهقة السياسية البلهاء ، فهو إذن الغرض الخاص،لسبب أو آخر.
ارتباط مصير الأخوين يفرض على أحدهما تفعيل العقلانية حين تسيطر العاطفة بانفعالاتها المنفلتة والمتهورة على الآخر،فالحروب في هذا العصر ليست لعبة شجاعة،حيث شخص مفرد يستطيع أن ينثر عشرات الجثث دونما حاجة إلى مواجهة.
و(أعدوا) التي وردت في القرآن الكريم،إنما كانت توجيهاً إلهياً لئلا (تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة).
فالنصر هو الغاية من الحرب... لا الموت.
وما الشهادة إلا (مكافأة) من الآخرة لمن قُتل لتحقيق هذه الغاية.
إذا كان هذا هو المنطق... منعطف الدين والعقل والفطرة.
إذن ففيم الشنشنة؟
إن مصر أكتوبر (73) التي انتصرت عسكرياً في حربها ضد إسرائيل،لم تكن بقوة مصر (67) التي هُزمت أمام إسرائيل،حتى ولا على الصعيد المعنوي.
ولكنه الإعداد الجيد الهادئ العقلاني وحسابات القوى الدقيقة التي جعلت مصر - ودول المواجهة الأخرى - تحارب بسلاحين،إذ كان النفط سلاحاً اقتصادياً وسياسياً فاعلاً في تلكم الحرب.
هذا هو الإعداد المطلوب لمواجهة قوة مثل قوة إسرائيل التي يتكئ ظهرها على الحائط الأمريكي الفولاذي.
والصراع مع إسرائيل،مثلما نعرف جميعاً، ليس جديداً ولا هو وليد اليوم،وهو لن ينتهي في المدى القريب بين يوم وليلة.
وبالتالي فإن أدوات ووسائل هذا الصراع لا تقف عند حدود المدافع والأسلحة النارية الأخرى،فثمة أسلحة أخرى وميادين صراع أخرى سواء سياسية أو دبلوماسية أو إعلامية أو اقتصادية،فلماذا التركيز على المدافع وحدها؟
توقيت من هذا؟
فليكن صراعاً مسلحاً،إذا ما أراد البعض ذلك،ولكن حتى هذا يحتاج إلى (إعداد).. وإلا فإنه انتحار غبي.
إلا أن قراءة متأنية لتاريخ هذا الصراع تؤكد بأن بعضنا لم يستوعب درس عدم جدوى خوض الحروب اعتماداً كلياً على إحساسنا بالظلم،وبعدالة قضيتنا،وكل ما نملك من سلاح فيها هو الخطب العاطفية الرنانة والشعارات النارية الملتهبة.
لقد جربنا هذا النوع من الحروب فخسرنا المزيد من أراضينا وأرواح الأبرياء منا،ولم يتبق سوى القليل من كرامتنا التي مُرغت في التراب.
فلنرشد حتى نحافظ على ما تبقى منها.
حسناً، هناك من يرى أن المملكة لم توفق في اختيار التوقيت لإعلان رأيها،ولكن هل أحسن حزب الله اختيار توقيت إعلانه الحرب على إسرائيل؟!
لقد أشعلها في وقت لم تصل الأطراف المعنية إلى وقف نزيف الدم والدمار الشامل في غزة... وأشعلها في وقت يلهث الجميع والخوف يجتاح قلوبهم بعد أن أعلنت الحرب الطائفية عن نفسها بصراحة مفجعة،مُلطخة شوارع العراق بالدماء والأشلاء بين السنة والشيعة... أشعلها في وقت لم يتوصل فيه سياسيو لبنان نفسه إلى صيغة لمعالجة القضايا / القنابل الموقوتة على طاولة مفاوضاتهم،لدرجة أنستهم وشغلتهم عن قضية أخطر شبكة تجسس وإرهاب إسرائيلية كشفتها الأجهزة الأمنية.
باختصار،المنطقة لم تكن بحاجة إلى مزيد توتر وتعقيدات.
لا أريد أن أذهب مع من ذهب في تحليله بعيداً مفترضاً أن حزب الله شن هذه الحرب خدمة لأطراف أخرى تواجه حصاراً أمريكياً وأممياً ضاغطاً.
فوطنية وغيرة حزب الله وأمينه العام ليست محل شك،ولكنه خطأ في الحسابات بنى عليه خطوته.
ومع أنني أتفق وحزب الله وأمينه في الهدف،ولا بد أن نتفق،إلا أن رؤانا لتحقيقه قد تختلف،وقد تختلف تصوراتنا الإجرائية لتحقيقه،إلا أن هذا لا يعطيني الحق للطعن في وطنيته وولائه للقضية التي تجمعنا في خندق مصيري واحد.
وبالمقابل حين أناصحه بل وأحتج عليه،خاصة حين يصبح عليِّ لزاماً أن أتحمل معه نتيجة سوء تقديره،الذي سيجر المنطقة كلها وشعوبها إلى مصير مجهول،وخراب ودمار وقتل يطول الجميع بمثل هذه الوحشية التي يمكنك توقعها من صهاينة ، أجندتهم الاستئصالية الهمجية ليست بخافية على أحد،بل ومعلنة نهاراً جهاراً.
بالمقابل حين أعتب وأحتج عليه والنتائج الكارثية أمامي،يجب أن لا يسارع إلى تجريدي من قوميتي أو وطنيتي أو ديني،إذ سيكون هذا عناداً لا معنى له.
لقد احتج بعض كبار الصحابة وعلى رأسهم عمر بن الخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم حين وقع صلح الحديبية مع مشركي مكة،وذهبوا مغاضبين،وكادوا أن لا يحلقوا رؤوسهم أو ينحروا هديهم،ولكنهم لازموه ولم ينقضوا من حوله بسبب الاختلاف في الرؤى،ولم يكذبوا نبوته ويكفروا برسالته،ولم يجرمهم هو أو يجردهم من إسلامهم،هذا هو أدب الاختلاف في تراثنا وتعاليم ديننا وسنة نبينا.
وللخروج من النفق
أما وقد اختار البعض إثارة الغبار والتشكيك في توجهات المملكة،فإن هذا لن يضير أحداً بشيء،فمواقف المملكة منذ إنشائها وإلى اليوم،وحرصها على مصالح العرب والمسلمين ونهوضها بهذه المسؤوليات،لا تحتاج إلى من يدافع عنها أو يبرزها ويتحدث عنها،لأن قادتها يعرفون أن هذا جزء من واجباتهم ومسؤولياتهم،كما أن هذه المواقف محفوظة في كتاب التاريخ،وهو مفتوح لمن يرغب في قراءته.
إلا أننا نعتقد بأن الوقت قد حان لأن يرشد هذا البعض منا،وأن لا ينخرطوا بوعي أو بجهالة في الإساءة إلى أمتهم.
أما من اختاروا الظلام سكناً يرسلون منه نعيقهم كلما دهمت الأمة كارثة أو حلت بها جائحة،ينفثون سمومهم بالفتنة بين أبنائها،فقد آن لهم أن يعوا.
وأعتقد أنه خير لنا أن نفكر بعقولنا وبهدوء لتحقيق هدف أمتنا في دحر من يكيد لها،وأن ننهض بها ومعها لنحتل مكاننا بين الشعوب العاملة الفاعلة،لا الشاتمة والنادبة الجزعة،فذلك خير لنا ولشعوبنا.
على كل ، ما من منصف ينكر الدور الحيوي والفاعل الذي ظلت تلعبه المملكة في تبني ودعم القضايا العربية إقليمياً ودولياً انطلاقاً من إحساسها بالمسؤولية والواجب الإسلامي والعربي ، وبالتالي فإن هذا الدور ليس محل مزايدات ومماحكات.
إلا أنها وقد ظلت دائماً في حالة من عدم الاتفاق مع بعض أشقائها ممن يطرحون رؤية مختلفة لإدارة الصراعات العربية/العربية ،و العربية/الأجنبية ، وعلى رأس الأخيرة الصراع العربي/الإسرائيلي ، ورغم الاختلاف وعدم الاتفاق ظلت تلعب هذا الدور،وجزء كبير من هذا الدور كان معالجة لنتائج أخطاء من يختلفون معها،وبعض النتائج كانت كارثية بمعني الكلمة.
إلا أنها ضاقت بهذه الحلقة الجهنمية المفرغة،وقد حق لها أن تضيق،ورسالتها - فيما يستطيع أي مراقب أن يلحظ - هي أن الوقت قد حان لتغيير هذا المنهج في التعاطي مع قضايانا،وأن أول خطوة لذلك هي الاتفاق والاجتماع على خطواتنا الكبرى،سياسية أو غير سياسية،وأن تدرس هذه الخطوات جيداً،حتى لا نكون مجرد قفزات في الظلام قد تعود بنا إلى المربع الأول.


وافتخر اني سعودي