عرف البريد منذ القدم , وهو اختراع قديم جداً نال تطوره على يد العديد من الأمم , تأتي في مقدمتها أمة العرب . وقد استعمل العرب الخيل منذ الجاهلية في نقل بريدهم , حيث يورد آدم ميتز في كتابه تاريخ الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري مانصه : « إن الروم كانوا يستعملون الخيل في حمل البريد , وكذلك كان الحال عند ملوك العرب في الجاهلية » (ميتز د.ت: 410). وقد ورث المسلمون إرثاً عربياً خالصاً في ميدان البريد عن أجدادهم .
ومن أشهر البُرُد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم تلكم الرسائل التي بعث بها إلى الأباطرة والأكاسرة والملوك , الذين كانوا يعتلون عروش الحكم في الدول المحيطة بالجزيرة , داعياً إياهم للدخول في دين الله الحنيف . كما لا يمكن إغفال الرسائل والرسل التي بعث بها صلى الله عليه وسلم إلى القبائل في الجزيرة العربية حاثاً إياها على اعتناق الإسلام . إذاً يمكن القول بأن عهد الرسول الأمين شهد استخدام البريد الداخلي والبريد الخارجي .
وعندما اضطلع المسلمون الأوائل بالجهاد في سبيل الله , وانساحوا في كل صوب من أجل الدعوة , وحققوا الكثير من الإنتصارات , ودانت لهم الإمبراطوريات , واتسعت رقعة دولتهم , وبخاصة في عهد الخلفاء الراشدين , كان لزاماً عليهم تحسين الخدمة البريدية لتصل بين أطراف دولتهم المترامية , وبين مقر الحكم . وخلال الفتوحات حمل الجند على عاتقهم إلى جانب واجب الجهاد عبء نقل البريد . وقد قيل أن الخليفة عمر رضي الله عنه كان يتلقى كل يوم رسولاً من جيوش المسلمين المحاربة , وكان على اتصال دائم بالجيوش , بل حثهم على أن يخبروا عن كل مايصادفون , وأن يصفوا كل مايشاهدون , لكي يحس بأنه يحيا بينهم , ويشاطرهم مصاعبهم , ومايحققون من انتصارات , ولكي يقدم لهم النصح والإرشاد حين الحاجة . ويعد عهد عمر رضي الله عنه العهد الذي بدأ فيه تنظيم البريد وترتيبه ( إبراهيم 1976 : 116).
وفي العهد الأموي اهتم الخليفة معاوية بن أبي سفيان بتنظيم البريد بينه وبين عماله وولاته في العراق ومصر والجزيرة , وكانت تصله تباعا أخبار الجند والجباية وكل مايتعلق بأمور الدولة ( المعارك 1415 : 1/ 29).
وكما وهو معروف فإن عبد الملك بن مروان هو الذي صبغ الإدارة في الدولة الإسلامية بصبغة عربية تكاد تكون خالصة , حيث عرب الدواوين , وأدخل على نظام البريد كثيراً من التحسينات , وحملت في عهده الطرود لأول مرة فوق دواب البريد , كما حملت المربوطات . ويجدر بنا في هذا المقام أن لا نغفل مقولة عبدالملك لأحد مقربيه وهو ابن الدغيدغة: « وليتك ماحضر ببابي إلا أربعة : المؤذن فإنه داعي الله تعالى فلا حجاب عليه , وطارق الليل فَشرٌ ماأتى به ولو وجد خيراً لنام , والبريد فمتى جاء من الليل أو النهار فلا تحجبه فربما أفسد على القوم سنة حبستهم البريد ساعة , والطعام إذا أدرك , فافتح الباب وارفع الحجاب وخل بين الناس وبين الدخول ». فما أعظم المكانة التي حظي بها البريد عند عبدالملك.
وفي عهد الوليد بن عبدالملك زاد اتساع شبكة البريد لتخدم التقدم العمراني والاقتصادي الذي كان ينشده , ووفر لها من الخيل والإبل العدد الكبير , وأنشأ لها السكك , أي : المحطات , في كل أنحاء الدولة , وبلغ من أهمية البريد في عهده أن حمل على ظهور دوابه الفسيفساء التي زين بها المسجد الأموي , ومساجد مكة المكرمة والمدينة المنورة . كذلك اهتم عمر بن عبدالعزيز بتنظيم البريد حيث أنشأ المحطات والخانات , وأقام أحواض السقيا ومخازن العلف للدواب في كل المسالك والطرق التي يحمل عبرها البريد .
أما البريد في عهد الدولة العباسية فقد ارتفع شأنه وعلت مكانته , بحيث أصبح صاحب البريد يمثل سلطة رقابية على تصرف أصحاب المناصب الرفيعة في الدولة ورجال البلاط . وليس أدل على ذلك من مقولة أبي جعفر المنصور حين قال :ماأحوجني أن يكون على بابي أربعة نفر لا يكون على بابي أعف منهم , وهم أركان الدولة ولا يصلح الملك إلا بهم , أما أحدهم فقاض لا تأخذه في الله لومة لائم , والآخر صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي , والثالث صاحب خراج يستقصي ولا يظلم الرعية , ثم عض المنصور على إصبعه السبابة ثلاث مرات وهو يقول في كل مرة .آه,آه.قيل ما هو يا أمير المؤمنين ,قال : صاحب بريد يكتب خبر هؤلاء على الصحة » (القلقشندي 1919 : 14/ 387 ).
وفي عهد الدولة العباسية بلغ الإهتمام بالطرق التي تصل بين أرجاء الجزيرة العربية شأوً بعيداً , و نستشف ذلك من جهودهم التي بذلوها في هذا المضمار :فأول خلفاء بني العباس أبو العباس السفاح أمر بإقامة الأميال على الطرق , وهي أحجار تحدد عليها المسافة . وقد نال الطريق من الكوفة إلى مكة النصيب الأفر في هذا , حيث أمر السفاح سنة 134هـ /751 م بضرب المنارات والاميال من الكوفة إلى مكة (الراشد 1414 :334 ) . وفي حديثه عن البريد الإسلامي يقول آدم ميتز :« وكان الخلفاء يقيسون المسافات بالأميال غربي الفرات أما في شرقيه فبالفراسخ ,ولم يكن عند العرب ما يسمون به علامات المسافات إلا كلمة (ميل),أما في شطري الدولة الإسلامة فكانت توجد محطات للبريد تسمى السكك وهي مزودة بالخيل و الراكبين » حيث التبادل على مسافات معينة كل ثلاثة أميال أو فرسخين , ويدل على ذلك ما حكاه الصولي في كتابه ( الأوراق ) عن رجل يعرف بالخليجي كان يحمل الخريطة من مكة إلى بغداد ويسبق بأخبار الحج , أي أنه كان يقطع المسافة كلها .و كان بين المغرب والمشرق شبه تبادل دولي في البريد,فكان بريد الترك يصل إلى يوشجان الأعلى وهو حد الصين , وكان بريد آسيا الصغرى يواصل الرحلة إلى القسطنطينية , وكان لهذا البريد سكة كل ثلاثة أميال » (ميتز د.ت 411).
وفي عام 166هـ أمر المهدي بإقامة البريد بين مكة والمدينة واليمن وذلك لأول مرة , ولم يسبقه أحد من الخلفاء لهذا العمل , وقد استخدمت الجمال و البغال لهذا الغرض , مما كن له الأثر الكبير في ربط الحكومة المركزية في بغداد بجميع أنحاء الجزيرة العربية عبر طرق مواصلات راقية التنظيم ( الراشد 1414 :49 ).ويقال أن البريد كان يصل إلى الخليفة هارون الرشيد بواسطةالنجائب خلال ثمانية أيام ,وعلى أجنحة الحمام خلال يوم واحد حينما اتخذ طريقه لأداء فريضة الحج مشياً على الأقدام برا بقسم كان قد أقسمه على نفسه ( الراشد 1414 :342 ).
وقد عثر في المملكة العربية السعودية على عدد من الأحجار الميلية , بعضها يوضح المسافة بحساب البريد .وتشير الدراسة التي أعدت عن هذه الأحجار إلى أن « أحجار المسافة المكتوبة بقياس الميل استخدمت في بداية العصر العباسي , في عهد الخليفتين أبي العباس السفاح والمنصور , أما أحجار المسافة التي توضح المسافة بقياس البريد فتعود إلى النصف الثاني من القرن الثاني الهجري , ولا يستبعد أن تكون أميال البريد قد استفاد منها عمال بريد الدولة الإسلامية فضلاً عن الحجاج وغيرهم من المسافرين .ويتضح من أحجار المسافة المنقوشة بقياس البريد انها كانت توضع على رأس كل بريد , وتقسم المسافة بين وآخر بالأميال , بحيث تكون المسافة بين كل بريدين 12 ميلاً » ( الراشد 1414 :338 ).
و لم يكن طريق الكوفة – مكة المكرمة الطريق الوحيد الذي برز من خلاله دور البريد في العالم الإسلامي إبان ازدهار ونهضته .فهناك طرق بريدية اخرى , منها الطريق من بغداد إلى الموصل الذي يخترق ما بين النهرين إلى سنجار ونصيبين ورأس العين والرقة , ومنبج , وحلب , وحماة , وحمص , وبعلبك , ودمشق , وطبرية , والرملة , وغزة , والقاهرة , والإسكندرية , ومن ثم إلى القيروان ويتفرع منه طريق آخر يتخذ وجهة الجنوب عند بادية الشام ليحمل برد هذه المدن إلى الجزيرة بمدنها وبقاعها وبخاصة مكة والمدينة .ثم الطريق من بغداد إلى الشام الذي يسير مع الضفة الغربية للفرات ماراً بالأنبار , وكانت حركة المرور في هذا الطريق عظيمة , ففي عام 306 هـ / 918 م كان ارتفاع خراج المرور عند هيت , وهي نقطة عبور على الطريق , (080 .250) دينار ( ميتز د.ت 413 ).
ويمكن الوصول إلى نتيجة مهمة مفادها أن الطريق المعبدة الآمنة تعني بريداً جيداً منتظماً , وأن الطرق الوعرة الخطرة تحول دون وجود خطوط بريدية منتظمة وجيدة , ويصبح البريد نوعاً من المخاطر .ولقد لعبت القوافل دوراً عظيماً في نقل البريد نوعاً وبخاصة الشخصي منه دون إلزام والتزام, اللهم إلا عامل النية الطيبة الخالصة وحمل الأمانة .وكان البريد الشخصي الذي تقوم قوافل الحج والسفر بنقله يؤدي هو الآخر مهمات قريبة من تلك التي يؤديها البريد الرسمي عبر العصور الإسلامية .
أما التنظيم الذي كانت تسير علية قوافل البريد , فقد كان لكل قافلة بريد قائد يسمى ( فرونق ) , وهو بمثابة العين يبثها الخليفة لمختلف بلدانه ليرفع إليه بعد كل رحلة ارتحلها مع القافلة ما سمع , وما شاهد , وما وجد من تصرفات العمال مع الرعية , وموقف الرعية من الخليفة , ومبلغ رضاهم أو سخطهم على مدبري شؤون الحكم .وهناك الكثير من الشواهد الدله على مدى عناية المسلمين بالبريد , منها أن أحد أبواب دمشق يسمى باب البريد , لا تمر منه سوى قوافل البريد وموكب الخليفة , دلاله على أهمية البريد وعلو شأنه .وأبواق البريد كانت تحمل معنى البشر والسعادة للخلفاء وللرعية , فحين تسمع يهرع الناس صوب قافلة البريد لحظة تطأ ميدان المدينة أو محلة ديوان الإنشاء كي يقفوا على الأخبار والأنباء العام منها والخاص .
وقد إزدهر البريد في بغداد عاصمة الخلافة حتى 656 هـ / 1258 م , وبلغ درجة من السمو إرتفعت برجاله إلى مراتب الحكم , فقد حكم البصرة يوماً ما فرونق .وكانت هذه اللفتة إلى رجال البريد باعثاً وسبباً اتجه بالشعر والشعراء إلى التغني به , و التمسوا عن طريقه المجد حتى فاز اشعرهم , وهو البهاء زهير , برئاسة ديوان الإنشاء الذي كان لرئيسة ولاية ضمنية على البريد (المعارك 1415 :1/29). أما أهمية البريد ودوره في ربط مراكز السلاطين والحكام بهذا الأمر على مر العصور الإسلامية , فيذكر المؤرخون أن السلطان نور الدين محمود زنكي لما فتح كثيراً من البلدان اتخذ حمام الزاجل لإرسال الخطابات معه إلى من يدين له بالولاء , و إلى من هو تحت حكمه ليقف على أخبار الحروب و الممالك , وذلك في عصر الحروب الصليبية .و قد اتخذ لهذا الحمام في كل جهة وبلدة أبراجاً .وأقام لها حفظة وحراساً للعناية بطعامه وشرابه ونظافة أمكنته , و مراقبة وصوله , واخذ الرسائل التي يحملها تحت جناحه أو ارجله,وكان كل برج من أبراجه يبعد عن الآخر بنحو اثني عشر ميلاً , كان ينفق في سبيل هذا الحمام أموالاً طائلة ( الكردي 1385 :2 /164 ) .إنها صورة رائعة و مسجدة تسجيداً دقيقا للكفية التي نظم بها حكام المسلمين خطا بريدياً باستخدام الحمام لايقل عن تنظيم خط بريدي على البر أو بواسطة البحر .
وهناك وظيفة غاية في الأهمية كانت من بين الوظائف التي تلحق بركب الحج في العصر المملوكي , إنها وظيفة مبشر الحاج , ويمكن أن نطلق عليها بريد الحاج .فقد جرت العادة على أن تجهيز مبشر الحاج لا يتأخر عن يوم منى ,بل إنه يتوجه بالبشارة في ذلك الوقت, ويسير مسرعاً حتى يبلغ القاهرة , و ينقل المبشر إلى السلطان أحداث الحج ومشاعر الحجيج , أو الاخبار العامة , و أخبار الوفيات , وما صادف الحجاج من متاعب , وما نعموا به من راحة في الطريق بين مصر والحجاز , ورأي الناس في أمير الحج.ومن أخبار مبشر الحاج ذكر ابن إياس : أنه بعد موسم حج عام 886هـ جاء المبشر بوفاة إينال الإسحاقي أحد العشروات وشيخ الحرم الشريف .عام 903 هـ جاءت الأخبار من مكة بأن كاتب السر بدر الدين بن مزهر لما توجه إلى مكة أصلح بين أمير مكة وأخيه .وفي عام 921هـ حضر مبشر الحاج وقد أبطأ عن ميعاده أياماً وسبب ذلك أن العربان خرجوا عليه و عروه وأخذو جميع ما معه (ابن إياس 1963 :214 ).
وعليه فإن البريد في العصر الإسلامي على إختلاف حقبه وأزمانه نقل على ظهور الإبل والبغال والخيل وبواسطة النجابين والمبشرين, و وصل في بعض الفترات إلى ذروة النظام والتنظيم , و وصل في فترات أخرى إلى منعطف الإهمال والنسيان هو خطوطه ودروبه ومسالكه , لكنه كان وسيلة اتصال لم تنقطع وأداة ربط لم تنفصم .
ونسوق هذه الرواية التي وقعت أحداثها في عهد الخليفة العباسي المأمون شاهداً على فعالية دور البريد إبان العصور الإسلامية وخطورة شأنه ؛ فيروى أن طاهر بن الحسين مؤسس الدولة الطاهرية سعى لدى الخليفة المأمون عن طريق الوزير أحمد بن أبي خالد كي يقطعهولاية خراسان . و عندما حل الوزير بحضرة الخليفة عرض بأن أحوال خراسان أشرفت على الدمار والخراب , و أن غسان و الي ذلك الإقليم لم يتمكن من الحفاظ على ممتلكات الرعية والجيش , فقال المأمون ما هو الصالح إذن ؟ و من هو الجدير بهذا المنصب ؟ فأجاب أحمد بأن طاهراً ذا اليمينين هو من يستحق ذلك , فقال المأمون : هل من الممكن أمن جانبه ؟ فقال الوزير : إن كل مخالفة تبدو من طاهر أنا مسؤول عن تداركها . وهناك أجاز المأمون , وأسرع طاهر إلى هناك ثم رسخت في خاطرهفكرة الاستقلال .و قال كلثوم بن هدم : كنت في عهد المأمون صاحب بريد خراسان , وفي يوم من أيام الجمعة أسقط طاهر اسم الخليفة من الخطبة , وأحل محله دعاء آخر, وقد نسخت واقع الأمر بلا زيادة أو نقصان و أرسلت به في نفس التو و اللحظة إلى بغداد , وفي اليوم التالي ,و قبل طلوع الشمس , جاء رجل من دار الإمارة في طلبي ,فنطقت بالشهادة , وذهبت وكلي ظن وشك بان طاهر قد وقف على فحوى رسالتي وقصد قتلي , وعندما وصلت إلى هناك خرج طلحة بن طاهر من االمنزل وقال : هل كتبت واقعة الأمس , قلت : نعم فقال اكتب خبر موت أبي اليوم , وفي الحال فعلت بموجب الأمر . و يقال : إنه حينما وصل الخبر الأول إلى المأمون قال للوزير أحمد بن أبي خالد :بمقتضى ما وافقت عليه وقبلته توجه إلى خراسان حيث يجب رفع الشر الذي بدر من طاهر , وبينما كان الوزير أحمد مشغولاً بتجهيز الجيش وصل فجأة نبأو فاة طاهر أيضاً ,
وقد أردنا بهذا فقط أن نوضح الدور الذي لعبه البريد في تيسير شئون الدوله على مدار التاريخ البشري ؛ فقد أدت رسالة أرسل بها صاحب البريد إلى حالة من الأستعداد لخوض الحرب , وأدت أخرى لحقت بها إلى تهدئة الأحوال وعودة الأمور إلى نصابها .فما أعظم شأن البريد .